المشاركة في الاجتماع السنوي لرابطة الشباب المسلم العربي:
في شتاء 1989م جاءتني دعوة للمشاركة في الاجتماع السنوي لرابطة الشباب المسلم العربي في أمريكا، وعلى رغم ما أشكو من وجع الرجل، فإني عزمت على السفر لحضور هذا اللقاء، الذي يجمع في العادة صفوة من شباب المسلمين العرب الذين يدرسون في أمريكا، وأكثرهم يدرسون دراسات عليا، وبعضهم يدرس الدراسة الجامعية.
من أهداف زيارتي:
وكان من أهداف زيارتي أيضًا: أن أعرض نفسي على أحد أطباء العظام المختصين في واشنطن، وقد اتفقت مع الإخوة في المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن - وقد اعتدت أن أمرّ عليهم في كل زيارة، وألتقي العاملين في المعهد، وألقي فيهم كلمة، وأتلقى أسئلتهم - أن يحجزوا عند طبيب يعرفونه ويطمئنون إليه.
تعرفي على الأخ عبد الرحمن العمودي:
وبعد الانتهاء من أعمال مؤتمر الرابطة، مررت بالإخوة في واشنطن، فرحّبوا بي، وأعدّوا العدة لما طلبته منهم. وقال الأخ الدكتور طه جابر العلواني مدير المعهد: إنه قد كلف أحد الإخوة بالمعهد ليصحبني، ويقوم بالترجمة بيني وبين الطبيب، وهو الأخ عبد الرحمن العمودي، الذي كان مسئولًا عن العلاقات العامة بالمعهد يومئذ، وكان نِعْم الرفيق، ونِعْم الترجمان، وهي أول مرة أتعرف عليه فيها، فك الله أسره... وكان مما ذكره لي د. طه: أنه حجز لي عند طبيب معروف، يتردّد عليه هو شخصيًا للعلاج، فهو مصاب بمثل ما أنا مصاب به.
في عيادة الطبيب:
وفي الموعد المحدّد، صبحني عبد الرحمن إلى عيادة الطبيب الذي نسيت اسمه، وفحصني، وفحص قدمي بصفة خاصة، واطلع على كشف أشعة، أظنه كان معي، وسألني جملة أسئلة. ثم وصف لي تمرينات أقوم بها، في الصباح وفي المساء، وهي حركات للرجْل، مرات معدودة، ورأى أن هذا العلاج الطبيعي كافٍ، في هذه الفترة، مع الوصية بالرفق والاعتدال، وعدم إرهاق الجسم عامة، والرجلين خاصة.
لقائي بالصحفي التونسي الهاشمي الحامدي:
وفي هذه المرحلة، التقيت - لأول مرة - الصحفي التونسي المعروف: الهاشمي الحامدي، الذي كان عضوًا نشيطًا في «حزب النهضة» الذي يتبنّى الاتجاه الإسلامي، ويقف في وجه التيارات العلمانية «اللائكية» ليبرالية وماركسية، ويعبر عن حقيقة الإسلام المتكامل المتوازن، الذي يجمع بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر، والذي يقوده بحكمة وشجاعة وبصيرة أخونا الداعية المفكر الملتزم: الشيخ راشد الغنوشي، والذي أثنى عليه الهاشمي الحامدي ثناءً عاطرًا، قبل أن ينقلب عليه فيما بعد.
ندوة عن المستقبل الإسلامي وقضاياه:
وفي أثناء لقائي بالحامدي، حدثني عن نيته لإقامة ندوة فكرية إسلامية عالمية مهمة، تتحدث عن المستقبل الإسلامي وقضاياه. فرحّبت بالفكرة، وقلت له: هذا أمر في غاية الأهمية اليوم، لأن غالب الإسلاميين يعيشون في الماضي، وربما التفت بعضهم إلى الحاضر، ولكنهم في الجملة غائبون عن المستقبل. مع أن لدينا في القرآن والسنة مؤشرات تقودنا إلى الانتباه للمستقبل، كما نجد في القرآن المكي حديثًا عن المستقبل، كقوله تعالى: {وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} [الروم: 3]، {سَيُهۡزَمُ ٱلۡجَمۡعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ} [القمر: 45]، {سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ} [فصلت: 53] ... إلخ.
قال: لقد سرّني تجاوبك مع الفكرة، وتشجيعك لها.
قلت: أنا أومن بأنه لا خلاص لأمتنا ما لم نخرج من التقوقع على الماضي، ونتعلم التفكير المستقبلي، القائم على العلم والدراسة والإحصاء لا على الأخيلة والأوهام، المهم أن تتكون عندنا عقلية استشراف المستقبل.
قال: لهذا تنعقد هذه الدورة، وستكون في البلد الذي تحبه ويحبك: الجزائر، وسندعو إليه كثيرًا من إخوانك وأصدقائك من المفكرين الذين تعرفهم: طارق البشري وعمارة وهويدي والعوا وعادل حسين، والترابي والغنوشي والدجاني ومنير شفيق، وغيرهم، وعلى رأس الجميع: الشيخ الغزالي.
وأنا أطلب منك أن تكتب في موضوع أنت مشغول به، ورأيته مبثوثًا في محاضراتك، وفي كتبك الأخيرة، وهو الذي سميته «فقه الأولويات» فأريدك أن تتحدث عن «أولويات الحركة الإسلامية في العقود الثلاثة القادمة».
قلت: على بركة الله، وسأجتهد في كتابة هذا البحث، وبالله التوفيق.
وافترقنا، على أن نلتقي في الجزائر في الموعد المحدد للندوة.
وبقيت أيامًا في واشنطن، التقيتُ فيها الإخوة الكرام: العلواني، والبرازنجي، والطالب، ومحيي الدين عطية وغيرهم من المسئولين عن معهد الفكر الإسلامي، ثم لقيت العاملين وتحدثت إليهم، كما تحدثوا إليّ، ثم ودعت الجميع عائدًا إلى الدوحة.
العودة إلى الدوحة:
وبعد عودتي إلى الدوحة، عملت بنصيحة الطبيب الأمريكي في المواظبة على التمرينات، وقد استرحت عليها فعلًا إلى حد كبير، ولكن الرفق الذي أوصى به الطبيب رُوعي مدة من الزمن، ثم لم يلبث أن عاد الحال إلى ما كان عليه من النشاط والسفر، وهذا كله عبء على القدم الموجوعة.
وعندما أقبل رمضان، وجاءت صلاة التراويح: عزّ عليّ أن أتركها أو أصلي مأمومًا في تلك السنة، ولكني صلّيت على ما هو المعتاد، وكنت أعتمد على رجلي السليمة في صلاتي الطويلة. فما إن انقضى شهر رمضان المبارك، حتى ابتليت بوجع رجلي اليمنى. حتى ليبدو أن وجعها أشد من وجع اليسرى، التي باتت أحسن حالًا، بعد التمرينات التي أوصاني بها الطبيب الأمريكي، وبعد عملية المنظار التي أجراها لي من قبل الطبيب البرازيلي في الوحة.
تردُّدي على مستشفى حمد:
وغدوت أتردد على قسم العظام مستشفى حمد بالدوحة، الدكتور نبيل خليفة ورفاقه، وأعطوني بعض المسكنات من الأدوية، ووصفوا لي بعض التمرينات وبعض العلاج الطبيعي الذي يجب أن أجريه في المستشفى، لأنه يستلزم استخدام أدوات كهربائي وغيرها.
والحقيقة أني لم أستفد من هذه الأجهزة، ومن هذا العلاج الطبيعي شيئًا يذكر. ولم أزل أشعر بالألم يصاحبني ويقلقني. وأحيانًا أذهب إلى أطباء غير أطباء العظام، كأطباء الباطنى، الذين يعالجون أمراض الروماتيزم، أشكو من شدة الألم، فيعطونيي إبرة «كورتزون». وهو دواء مسكن. ولكنه لا يعالج الداء من أساسه، ويستأصله من جذوره. وأثر الكورتزون لا يدوم أبد الدهر، ولكن له مدة، ثم يزول ويعود الجسم إلى طبيعته، وتعود الشكوى من جديد.
نصيحة صديقي يوسف توبة:
وما زلت أصبر وأصابر، رجاء أن تأتي إجازة الصيف، فأبحث عن طبيب يعالجني بعملية المنظار أو نحو ذلك. وكان في نفسي أن أذهب إلى الطبيب الذي فحصني في واشنطن، ولكن أحد أصدقائي وأحبائي نصحني بطبيب آخر. أجري له عملية ناجحة، أمسى بعدها يمشي كما يمشي الأصحاء، ولا يشكو من أي شيء، وقال: إنه كان يشكو مما أشكو منه، وأن هذا الطبيب في مدينة «بوسطن» بأمريكا، وهو هندي الأصل، ومشهور بهذا العمل عن طريق المنظار، وأنك لن تستغرق سوى دقائق ثم تخرج في عافية أو قريبًا من العافية، وبعد يوم أو يومين تمارس المشي بطريقة عادية.
كان هذا الصديق هو الأخ الكريم الأستاذ يوسف توبة، رجل الأعمال المعروف، وقد تعارفنا من قديم في السجن الحربي في محنة الإخوان (1954م). وهو رجل صادق ومجرّب في نفسه، فلم يكن هناك بد من أن آخذ بنصيحته.
سفري إلى طبيب جراح في مدينة بوسطن بأمريكا:
وراسلنا الطبيب الجراح من سفارة قطر في واشنطن، وحجزنا عنده في شهر يوليو «تموز»، وسافرت أنا وزوجتي وابني أسامة - الطالب بكلية الهندسة بجامعة قطر - من القاهرة إلى بوسطن، واستأجرنا فيها شقة مفروشة لمدة شهر، مستعينين ببعض إخواننا هناك. ثم ذهبنا إلى عيادة الدكتور الجراح، فقابلته، وفحصني، وقرر العملية في يوم محدد.
وفي الموعد ذهبنا لإجراء العملية، وكنت أظن أنها ستكون مثل العملية التي أجراها الجراح البرازيلي في الدوحة، حيث تمت بسهولة وسرعة، وخرجت بعدها امشي على قدمي، بدون أي عائق.
عملية طويلة منهكة:
ولكن هذه العملية طالت، وخرجت منها منهكًا مهدودَ القوة، وبقيت فترة لم تطل كثيرًا في العيادة، ثم انتقلت بمساعدة بعض الإخوة إلى الشقة التي نسكنها. وبعد أن زال أثر التخدير، بدأت أحس بالألم يزداد شيئًا فشيئًا، ولم تتحسن حركتي، بل بقيت عدّة أيام لا أتحرك إلا بصعوبة.
وبعد عدّة أيام كانت لي معه مراجعة، فذكرت له ما لا أزال أعانيه من الألم، فطمأنني بأنه سيزول بمضي الوقت، ونصحني بالمشي، ولكن كيف يمشي من يتألم؟
وقضينا بقية الشهر في بوسطن وزرنا معالمها، وهي تتميز بأن فيها أشهر جامعتين في أمريكا، وربما في العالم: جامعة هارفارد (Harvard University)، وجامعة إم آي تي (MIT).
محاضرة عامة في بوسطن:
ورتّب الإخوة الإسلاميون لي محاضرة عامة، دعي إليها جم غفير من المسلمين العرب وغيرهم ممن يحسن فهم العربية. وبعد انتهاء المدة التي قررناها لبقائنا في بوسطن، عزمنا على شدَّ الرحال للعودة إلى مصر، ثم إلى قطر، عن طريق لندن.
لكل شخص ظروفه الصحية:
وقد تبيَّن لي أن نجاح طبيب في عملية مع شخص، لا يستلزم نجاحه مع كل إنسان. فقد نجح هذا الجراح مع أخي وصديقي يوسف توبة، ولكنه لم ينجح معي، لأن لكل شخص ظروفه الصحية والنفسية وغيرها.
وعلى كل حال، لم أشعر بأني وُفِّقت في هذه العملية، وفي هذه السفرة الطويلة، ولكني أديت ما علي، فعلى المريض أن يسعى، وعلى الطبيب أن يعالج، أما الشفاء فهو من الله {ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهۡدِينِ *وَٱلَّذِي هُوَ يُطۡعِمُنِي وَيَسۡقِينِ *وَإِذَا مَرِضۡتُ فَهُوَ يَشۡفِينِ} [الشعراء: 78 - 80].
المرور بإلهام في لندن:
وكان الذي رتَّبناه: أن نمر بابنتي «إلهام» في لندن، أو على وجه الدقة في ضاحية «إجم» بالقرب من لندن، وقد اشترت بيتًا تقيم فيه مع أطفالها، مدة دراستها للدكتوراه، ويزورهم زوجها بين الحين والحين.
وفي المطار وجدنا «إلهام» تنتظرنا بسيارتها، وبعد السلام والعناق الحار، حملتنا - أنا ووالدتها وشقيقها أسامة - إلى منزلها، بتلك الضاحية الجميلة، التي فيها فرع جامعتها للعلوم، وهي لا تبعد كثيرًا عن المطار، وكنا في شهر أغسطس ولكن الجو كان لطيفًا.