اشتداد وطأة الصرب على المسلمين:

كانت حروب البوسنة والهرسك، قد بلغت أشدها، واشتدّت وطأة الصرب على المسلمين، الذين كان لهم وجودهم التاريخي في هذه البلاد من قرون، ولهم مواريثهم الدينية والثقافية والحضارية. لهم جوامعهم وجامعاتهم، ولهم أوقافهم ومكتباتهم، ولهم كتبهم ومؤلفاتهم. وهم من أهل البلاد الأصليين ورثوها أبا عن جد.

ولكن الصّرب نصارى أرثوذكس متعصّبون شديدو التعصب، وقد ورثوا جيش «يوغسلافيا» الذي كان يعدّ رابع جيش في أوربا. وقد أفرغوا حقدهم ونقمتهم على المسلمين، كأنما يريدون ألاَّ يبقوا لهم من باقية. والمسلمون لا يكادون يملكون بندقية عادية يدافعون بها عن أنفسهم.

وكانت وكالات الأنباء تذيع بعض ما يجري هناك، لا كل ما يجري، ولكن هذا البعض تشيب من هوله الولدان، لما فيه من قسوة ووحشية، قلما تحدث في التاريخ إلا نادرًا، ولكن العالم يسمع ويرى، ولكنه لا يحرك ساكنًا.

قتل وحوش الصرب ألوف المسلمين بوسائلهم الجهنمية، ودفنوهم في مقابر جماعية اكتشفت بعد، ولا تزال تكتشف إلى اليوم.

وقد كان وقع هذه الأنباء الأليمة على أبناء الأمة الإسلامية في كل مكان: وقع الصاعقة، وبدأ كثيرون من شباب الإسلام يبدون رغبتهم في نصرة إخوانهم المستضعفين في الأرض، والله تعالى يقول: {وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ} [النساء: 75]. وإن كان الوصول إلى البوسنة عسيرًا، والحصول على قطعة سلاح أعسر وأشد. ولكل مجتهد نصيب...

اغتصاب الصرب للنساء المسلمات:

ولم يكن الصرب يكتفون بذبح الرجال فقط، بل ويغتصبون النساء اغتصابًا، والاغتصاب بالنسبة للمرأة المسلمة جريمة وفضيحة ومذلة، وهي تفضّل الموت على أن يقع لها ذلك. ولكن هؤلاء الوحوش الآدميين اقترفوها بكل وقاحة، ولم تكد تسلم منهم صبية ولا عجوز. وتحكى في ذلك وقائع وفظائع لا يصدقها عقل.

اقتراح الأستاذ فهمي هويدي:

وكان أخونا الكاتب الإسلامي الكبير الأستاذ فهمي هويدي مهمومًا بأمر البوسنة والهرسك، وينبه المسلمين في مقالاته التي تنشر في عدد من الصحف إلى ما يجري في البوسنة. حتى إنه اقترح أن يؤجل الناس الحج هذا العام، ويجعلوا نفقاته لإنقاذ البوسنة والهرسك.

دعوى الأستاذ محمد عمر الزبير لإقامة مؤتمر في زغرب:

وكان أخونا الحبيب الذي يتوقَّد غيرة على قضايا الإسلام، ولا يكتفي بالتحرق، حتى يتبعه بالتحرك، وهو الأستاذ الدكتور محمد عمر الزبير، يسعى لعمل ما، لنصرة إخواننا الذين يصرخون ولا يجدون من يُصرخهم.

وكان من سعيه: أن اتصل بفضيلة شيخنا الغزالي، وبي، وبالأستاذ فهمي هويدي، وبعدد من الشخصيات الإسلامية المهتمة بأمر الأمة، وقضاياها، لإقامة مؤتمر في زغرب عاصمة كرواتيا، من أجل إخواننا البوسنيين، فكَّ الله أسرهم، وجَبَر كسرهم، وعجَّل نصرهم.

الاستجابة لدعوته الكريمة:

ولم يسعنا إلا أن نستجيب لهذه الدعوة الكريمة. فذهبنا عن طريق «النمسا» ومنها إلى زغرب، والتقينا هناك في زغرب، وهي عاصمة الكروات، وفي البلد أقلية إسلامية، ويبدو أنها كان لها شأن في يوم من الأيام قبل عهد الشيوعية، حتى إنَّ من أكبر الميادين فيها ميدانًا يسمى «ميدان الجامع»، والجامع موجود فعلًا، ولكنه حُول إلى متحف. وهناك مركز إسلامي في المدينة أُسّس حديثًا صلينا فيه الجمعة، ثم انعقد المؤتمر هناك، وحضره مَن دعي من البلاد العربية والإسلامية، ومن انضم إلينا من الإخوة في البوسنة والهرسك.

زيارة المعسكرات:

وكنا قبل ذلك، زرنا المعسكرات التي تؤوي الشيوخ والأطفال والنساء. أما الشباب، فهم إما استشهدوا وإما ذهبوا للقتال. وكانت حالة الناس في غاية البؤس، فهم يحتاجون إلى كل شيء، إلى الغذاء والكساء والغطاء والدواء والبندقية وغيرها. وكان معنا الأخت الشاعرة الداعية الأستاذة علية الجعَّار، وقد أحضرت معها بعض الحلوى لتوزعها على الأطفال، الذين كانوا يتكاثرون عليها، لينالوا حظّهم منها.

انعقاد المؤتمر:

وانعقد المؤتمر (1991م) وحضره مندوب الحزب الذي يرأسه الدكتور المثقف المجاهد علي عزت بيجوفيتش، وحضر الشيخ الدكتور مصطفى سيرتش، الذي عرفناه لأول مرة، وهو حاصل على الدكتوراه من كلية اللغة العربية في الأزهر، وعلى دكتوراه أخرى من الغرب.

وتحدّث الإخوة الضيوف، وفي مقدِّمتهم الشيخ الغزالي، والأستاذ هويدي، والشاعرة عليه الجعار، ود.الزبير، وتحدَّث الفقير إليه تعالى، وتحدث الإخوة البوسنيون، وأفاض الجميع فيما يجب على الأمة الإسلامية أن تقوم به لإنقاذ إخوانهم في البوسنة والهرسك، وبخاصة: أن الإسلام يوجب على الأمة الإسلامية نصرة إخوانهم إذا غزوا في أرضهم، أو اعتدى على دمائهم وأعراضهم وحرماتهم، وإذا عجز القوم عن الدفاع عن أنفسهم، وجب الدفاع على مَن يليهم، ثم مَن يليهم، حتى يشمل المسلمين كافة، فالأمة مسئولة مسئولية تضامنية بمقتضى العقيدة المشتركة والأخوة المشتركة، {إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَة} [الحجرات: 10]، «المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم»(1).

إجابتي عن اقتراح الأستاذ فهمي هويدي:

وقد سألني بعض الإخوة عما قاله الأستاذ فهمي هويدي: من أن إنقاذ البوسنة أهم من الحج هذا العام!

قلت لهم: إن فقهه مؤسَّس على اعتبار شرعي صحيح، وهو أن الفرائض إذا تزاحمت أو تعارضت، يجب أن يقدم أولاها، بالترجيح... وفي الشرع: إذا تعارض الفرض المتعلق بحق الفرد، والفرض المتعلق بحق الجماعة أو الأمة، يقدم ما يتعلق بحق الأمة.

ولهذا أجمع الفقهاء على أن الجهاد إذا كان فرض كفاية، فلا بد فيه من استئذان الوالدين حسب نص الأحاديث الصحاح. ولكن إذا كان الجهاد فرض عين، كما إذا دخل العدو بلاد المسلمين، فهنا يسقط استئذان الوالدين: لأن بر الوالدين فرض، والدفاع عن أرض الإسلام فرض، ولكن بر الوالدين يتعلّق بحق فردي والدفاع عن أرض الإسلام يتعلّق بالجماعة أو الأمة، وما يتعلق بحق الجماعة يقدم على ما يتعلق بحقوق الأفراد.

ومع هذا نحن في غنى عن منع الناس من أداء الفريضة، فالواقع أن الموسم في بعض السنوات يضمُّ مليونين أو ثلاثة ملايين من المسلمين، والإحصاءات تؤكد أن أكثر من 60% من الحجاج يحجُّون للمرة الثانية أو الثالثة أو العاشرة أو العشرين أو ما هو أكثر وهؤلاء هم الذين نطالبهم: بأن يتركوا الحج هذا العام، ويخصصوا نفقات حجّهم لنصرة إخوانهم في البوسنة.

سؤالي عن حكم إجهاض حمل المغتصبات من الصرب:

وكان أخطر الأسئلة التي وجهت إلي في أثناء المؤتمر: سؤال من الأخوات المسلمات اللاتي اعتدي على أعراضهن قهرًا، واغتصبن اغتصابًا تحت إكراه السلاح، وكان الصربيون المتوحشون، يفعلون ذلك انتقامًا وإذلالًا للمسلمين والمسلمات، وقد حمل من هذا الاغتصاب عدد منهن، وهنَّ يكرهن هذا الحمل في بطونهن من أعدائهن وأعداء دينهن، ويردن التخلّص منه بالإجهاض، ولا يردن ولدًا يحمل هذه الذكرى السيئة والمريرة.

وقد أجبتهم عن هذا السؤال في حينه، وسجَّلت الإجابة في كتابي «فتاوى معاصرة»، الجزء الثاني(2).

وكانت خلاصة الفتوى: أن هؤلاء الأخوات الممتحنات لا ذنب عليهن إطلاقًا في هذه البلوى، ولا يجوز لمسلم ولا لمواطن أن يوجِّه إليهن أي إساءة بالعبارة ولا بالإشارة، لأنهن فعلن ما فعلن تحت سيف الإكراه، والمكره معذور بالإجماع، وقد أجاز الإسلام للمكره أن ينطق بكلمة الكفر، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ} [النحل: 106]، وقال تعالى عن المكرهات على البغاء: {وَمَن يُكۡرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33].

وعلى الإخوة البوسنيين أن يتقدَّموا للزواج منهن، وعلى المجتمع أن يحتضن مواليدهن إذا ولدوا، ويربيهم على الإسلام، وقد ولدوا على الفطرة، ولا يحملون وِزْر آبائهم، ولعلَّ الله يخرج منهم ذرية صالحة تخدم الإسلام.

وأزيد هنا: أن من لم يبلغ حملها الأربعين يومًا فيمكنها أن تجهضه، كما هو رأي جماعة من الفقهاء، بل أجاز بعضهم الإجهاض في مثل هذه الحالة إذا لم يبلغ الحمل مائة وعشرين يومًا، وهي التي جاء فيها الحديث الصحيح: «أنه ينفخ فيه الروح».

تكوين لجنة لزيارة أمراء الخليج:

وقد كان من قرارات المؤتمر: تكون لجنة تمرُّ بأمراء دول الخليج العربية، وتحرضهم على مساعدة إخوانهم في البوسنة، وتأييدهم ماديًا وأدبيًا، في كل المجالات التي يحتاجون إليها. وكانت اللجنة مكَوَّنة من الشيخ الغزالي ومني ومن الأستاذ فهمي هويدي، والدكتور الزبير، والدكتور مصطفى سيريتش، وبعض الأشخاص نسيتهم. وقد قابلت اللجنة أمير دولة قطر السابق الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، وكان استقباله للجنة حفيًّا، ووعد خيرًا.

وطلبت اللجنة مقابلة الشيخ زايد آل نهيان، رئيس الإمارات العربية المتحدة، بواسطة مستشاره الثقافي الدكتور عز الدين إبراهيم، وقد رتّب للجنة لقاء معه في ضحى أحد الأيام، ولقيناه في الموعد المحدّد، وقد رحَّب بنا، وكانت زبدة كلامه معنا: إننا يجري علينا ما يجري على إخواننا، فما يتفقون عليه فنحن معه، فنحن لسنا الدولة الكبرى، في البلاد العربية، ولا الدولة الأغنى، ولا الدولة الأقوى.

وبعد ذلك ذهبت اللجنة إلى المملكة، واعتذرت عن عدم اللحاق بهم لواجبات أخرى، كنت مرتبطًا بها.

...............

(1) رواه أحمد (6692) وقال مخرَجوه: صحيح وهذا إسناد حسن، وأبو داود (2751) عن عبد الله بن عمرو.

(2) انظر: الجزء الثاني من كتابي «فتاوى معاصرة» (ص 609).