مبادرات الدكتور محمود عاكف التجديدية:

أخونا وصديقنا د. محمود عاكف من الرجال أصحاب المبادرات، الذين يتحرَّكون باستمرار، مجتهدين في استحداث وسائل جديدة غير الوسائل التقليدية، التي يقف عندها الإسلاميون غالبًا، ولا يكادون يبتكرون أسلوبًا جديدًا، بل يكادون يعلنون سخطهم على كل مجدِّد. وكأنهم يؤمنون بقول القائل: ما ترك الأول للآخر شيئا!

إنشاء مركز الدراسات الحضارية:

ولكن أخانا عاكفًا يؤمن بالتجديد أبدًا، ويسعى إليه. ولهذا أنشأ «مركز الدراسات الحضارية» في سنة 1993م، وجعل له فرعًا أو مكتبًا في القاهرة. وانظر إلى تسمية المركز، حيث لم يحمل عنوانًا إسلاميًّا، وذلك ليسع الجميع، ولا يخيف غير المسلمين.

أنشطة المركز المتنوعة:

وقد قام المركز بأنشطة متنوعة، منها ندوات كانت تبحث في موضوعات يبتعد عنها الإسلاميون، مثل التعددية والحريات، وشرعية تكوين الأحزاب في الدولة الإسلامية، والموقف من المرأة، وضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية. على آخره.

مشاركة عدد من المفكرين:

وكان يشارك في هذه الحلقات عدد من المفكرين الإسلاميين الأحرار، مثل: المستشار طارق البشري، ود. محمد عمارة، والأستاذ فهمي هويدي، ود. أحمد كمال أبو المجد، ود. محمد سليم العوا، ود. أحمد كمال إمام، كما شارك فيها عدد من الإخوان الملتزمين بالتنظيم، مثل: د. عبد المنعم أبو الفتوج، ود. عصام العريان، حتى الأستاذ مصطفى مشهور نائب المرشد العام، ثم المرشد العام بعد ذلك شارك في بعض الندوات.

مشاركتي في بعض الندوات:

وقد شاركت أيضًا في بعض الندوات حين أكون في القاهرة في إجازة الصيف، أو عند مروري بالقاهرة لسبب أو لآخر. ومن الندوات التي أذكرها مما شاركت فيها: ندوة تكوين الأحزاب داخل الدولة الإسلامية، حيث قلت: إنَّ تعدد الأحزاب في السياسة أشبه بتعدد المذاهب في الفقه، ويمكننا أن نقول: إن الأحزاب مذاهب في السياسة، والمذاهب أحزاب في الفقه، وقد نقلها الكاتب المعروف فهمي هويدي على لساني في مقالاته الأسبوعية الشهيرة في «الأهرام» وغيرها.

إصدار تقرير «الأمة في عام»:

وكان من أعظم ما أنتجه هذا المركز: إصدار تقرير «الأمة في عام»، وهو تقرير إستراتيجي إسلامي، على غرار التقريرات السنوية التي تصدرها جهات مختلفة في مصر وخارجها، وأشهرها: تقرير مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام.

وهذا التقرير يعتبر عملًا علميًّا موضوعيًّا عصريًّا مهمًّا، يشرف عليه أساتذة في العلوم السياسية، مثل: أ. د. نادية مصطفى، وأ. د. سيف الدين عبد الفتاح، ود. هبة رءوف، وعدد من الشباب الباحثين الواعدين.

وقد صدر عن المركز عدة تقريرات في عدة سنوات، وفي كل تقرير يكتب مقدمته أحد المفكرين المعروفين. وفي سنة (1994م) طلب مني د.عاكف أن أكتب مقدمة التقرير لذلك العام، كما طلب من المستشار طارق البشري أيضًا، فحظي التقرير بمقدمتين.

وكتبت كلمة عن «الأمة» التي جعلها التقرير عنوانًا له، ومحورًا يدور حوله، وما المقصود بهذه الأمة، وهي - بغير شك - الأمة الإسلامية، وهل توجد «أمة إسلامية» بالفعل أو هي أوهام في رؤوس الإسلاميين لا حقيقة لها في الخارج؟

الأمة الإسلامية حقيقة لا وهم:

وقد بيَّنت في مقدمتي: أن هذه الأمة حقيقة لا ريب فيها: هي حقيقة دينية، وحقيقة تاريخية، وحقيقة جغرافية، وحقيقة سياسية، وحقيقة ثقافية، وحقيقة بمنطق المصلحة المشتركة والمصير المشترك، بل هي حقيقة بمنطق الأعداء أنفسهم التي ينظرون إليها ككتلة واحدة من المحيط إلى المحيط... ولذا يزعج إسرائيل كل الإزعاج أن تمتلك باكستان القنبلة النووية، وأن تسعى إيران إلى امتلاك الطاقة النووية.

وقد ذكرت أن هذه الأمة أمة واحدة بحكم وحدة العقيدة والشريعة والقبلة والمفاهيم والآداب المشتركة. وأن الإسلام حافظ على وحدتها بأن جسَّدها في عناصر ثلاثة هي:

1 - وحدة المرجعية العليا، التي تتمثَّل في الشريعة الإسلامية المستمدة من القرآن والسنة.

2 - وحدة الدار، وأعني بها: دار الإسلام التي تجعل أوطان المسلمين وإن تباعدت وطنًا واحدًا، يجب على الجميع أن يدافعوا عنه، ويأثمون إذا فرطوا في ذلك.

3 - وحدة القيادة التي تتمثَّل في الخلافة الإسلامية، التي ظلت تجمع الأمة تحت رايتها ثلاثة عشر قرنًا، حتى ألغاها كمال أتاتورك في سنة (1924م)، حين هدم الخلافة العثمانية، التي كانت تمثل - على ما بها - آخر تجمع للمسلمين تحت راية العقيدة... إلى آخر ما قلت في هذه الكلمة.

وقد علق الكاتب المعروف الأستاذ سيد ياسين رئيس مركز الدراسات السياسية في الأهرام على مقالي، بأنه يمثل «حلم الفقيه» بإمبراطورية إسلامية، ولا يستند إلى رصيد من الواقع، على حين مدح مقال أخي المستشار البشري بأنه يمثل تحليل المؤرخ.

ردي على الأستاذ سيد ياسين:

وقد رددت على كل ما أثاره الأستاذ ياسين في الأهرام في صفحته الثقافية التي يكتب فيها مقاله أسبوعيًّا، ثم ردَّ الأستاذ على مقالي في الأسبوع التالي، ورددت عليه أيضًا.

وأشهد أنه كان يكتب بأدب واحترام، دون إساءة أو إسفاف، وإن كانت زاوية الرؤية تختلف اختلافًا شاسعًا بيني وبينه، فمنطلقاتنا متباعدة، وغاياتنا متفاوتة، ومصادرنا متباينة، فمن العسير أن نلتقي، كما قال الشاعر:

أيها المنكح الثريا سهيلًا      عَمْرَك اللهَ! كيف يلتقيان؟

هي شامية إذا ما استقلت      وسهيل إذا استقل يمان!

ولا يتسع المقام هنا لإيراد هذه المساجلات، وقد تضمنها جميعًا كتابي: «الأمة الإسلامية حقيقة لا وهم»(1).

....................

(1) نشرته مكتبة وهبة بالقاهرة، ومؤسسة الرسالة ببيروت.