مواجهة دعاة التطبيع:

في سنة 1994م تنادى الإسلاميون والقوميون «العروبيون» إلى ضرورة التلاقي بينهما، لتأسيس كيان مشترك يجمع الفريقين في جبهة واحدة، لمواجهة دعاة «التطبيع» مع العدوّ الصهيوني، وتذويب الحواجز - ولا سيما الحواجز النفسية والثقافية - بينه وبين أمة العرب والإسلام.

وكان دعاة التطبيع، والاستسلام، كما يريده الصهاينة والأمريكان من ورائهم، قد علت أمواجهم، وارتفعت أصواتهم، وتبجَّحوا بدعاواهم في الوطن العربي كله، وفتحت لهم أجهزة الإعلام الرسمية الأبواب، وأتاحت لهم الفرص ليشوِّهوا ويشوِّشوا ويُضللوا في المجال الفكري والسياسي، ما شاءت لهم أهواؤهم، وما شاء لهم سادتهم، وقد وحَّدوا صفوفهم، وصوَّبوا سهامهم، وكأنما حسبوا أن الجو قد خلا لهم. كما قال الشاعر قديمًا:

خلا لك الجو فبيضي واصفري     ونقِّري ما شئت أن تنقِّري

ضرورة التلاقي بين الإسلاميين والقوميين:

وكانت القوى الوطنية والقومية والإسلامية مبعثرة موزَّعة الجهود، مختلفة المواقف والمناهج، ومتصارعة القيادات، وإن كان هدف الجميع واحدًا، بالنسبة لقضية الأمة الجوهرية، وهي قضية فلسطين، التي لا يختلف اثنان منهم في وجوب تحرير أرضها، وجوبًا دينيًّا، ووجوبًا قوميًّا، ووجوبًا إنسانيًّا.

لقد انقضى ذلك العهد الذي ظل فيه الفريقان يهاجم كلاهما الآخر، وبخاصة الغلاة من الطرفين.

فالإسلاميون يتَّهمون القوميين - وخصوصًا غلاتهم - بأنهم لا يؤمنون بالدين عامة، ولا بالإسلام خاصة، ويعتبرون القومية العربية كأنما هي نبوة جديدة، بديلة عن نبوة محمد، وأنهم يسوون بين أبي جهل وعمر بن الخطاب، وبين حمَّالة الحطب وفاطمة بنت محمد، وبعضهم سمى ابنه: «لهبًا» لينادى: يا أبا لهب! إلخ ما قيل.

حتى قال أحد شعرائهم:

بلادك قدمها على كل ملة    ومن أجلها أفطر، ومن أجلها صم

هبوني دينًا يمنح العرب وحدة    وسيروا بجثماني على دين برهم

سلام على كفر يوحِّد بيننا     وأهلًا وسهلًا بعده بجهنم

نشأة القومية العربية:

ومن المعروف أن القومية وعاء يمكن أن يملأ بأي أيديولوجية، يمينية أو يسارية، أو إسلامية، ولكن القومية العربية نشأت نشأة عِلمانية مفرغة من الالتزام بالدين، أي دين. هكذا دعا إليها «أبو القومية» ساطع الحصري في كتبه ورسائله المختلفة، وهكذا دعا إليها حزب البعث منذ ميلاده في سوريا على يد ميشيل عفلق ورفاقه وأساتذته، وانتقل إلى العراق، متضمِّنًا هذا الموقف المعادي من الدين، مع أن منظِّري القومية أقاموها على اللغة والتاريخ، لا على العرق ولا على الأرض. وهذان العنصران - بالنسبة للقومية العربية - يربطانها ربطًا متينًا بالإسلام، إذ لا معنى للغة العربية بغير القرآن الذي حفظها وخلدها ووحدها، ولا معنى لتاريخ العرب بغير الإسلام، فهو صانع مجد العرب، وهو الذي جعل لهم رسالة في العالمين.

وقد كان عفلق يشيد بمحمد بن عبد الله باعتباره عبقرية عربية، لا باعتباره صاحب رسالة ربانية لهداية العالم وإخراجه من الظلمات إلى النور.

والقوميون يتهمون الإسلاميين: بأنهم لا يجعلون للعروبة مزية في فكرهم، ولا للعرب مكانة في برنامجهم، مع أن النبيَّ محمدًا منهم، والقرآن نزل بلغتهم، والكعبة البيت الحرام في أرضهم، وكذلك المسجد النبوي والمسجد الأقصى ... وكذلك حَمَلة رسالة الإسلام الأولون الذين نشروا الإسلام في العالم منهم.

وقد ظل هذا التباين بل التصارع نحو أربعة عقود، منذ الخمسينات حتى أوائل التعسينات... وبعد تبني عبد الناصر للقومية العربية، ودخوله مع الإسلاميين في صراع سقط في شهداء: ازدادت الفجوة بين التيارين.

تداول الأيام:

ولكن «تداول الأيام» سُنَّة من سنن الله، التي قرَّرها القرآن، كما قال تعالى: {وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ} [آل عمران: 140]. والدنيا تتغير، والأحوال تتغير، والنفوس تتغير، والسياسات تتغير، ولا ينبغي للناس أن يجمدوا على حالة واحدة، وإن تغير العالم من حولهم. ولا غرو أن وقف ممثلو التيار الإسلامي وممثلو التيار القومي وقفة تتسم بالحكمة والعقلانية، وتبعد عن الانفعالية والعاطفة، وعن إفرازات المواقف التاريخية، وما تركته من مرارات في أنفس الجميع، ولا سيما التيار الإسلامي الذي يشعر بأنه كان هو المظلوم والمكلوم ومقدم الضحايا. ورأى الجميع أن الموقف اليوم يستوجب من كل عقلاء الأمة أن يتراصوا في جبهة واحدة، ليواجهوا بحقهم باطل الدعاة إلى الاستسلام والتطبيع أو التطويع أو التركيع لمخطط العدو الصهيوني.

التركيز على القواسم المشتركة:

وبعد لقاءات ومشاورات من حكماء القيادتين: رئي أن تتكون من كل فريق لجنة تقدِّم ورقة تتضمَّن رؤيته في معالجة الموقف، متضمنة ضرورة التلاحم بين القيادتين، مركزة على القواسم المشتركة بينهما، مجتهدة في تعميقها، مجتثة مواضع الخلاف، ومثيرات النزاع، فعند الشدائد تذهب الأحقاد، والمصائبُ يجمعن المصابين، والمحن الكبار تجمع ولا تفرِّق، وأي محنة أكثر من محاولة الصهيونية أن تبتلع فلسطيننا، وأن تتحدّى أمتنا، وأن تنتصر على ثلاثمائة مليون من العرب، وراءهم ألف مليون من المسلمين أو تزيد؟!

وتكوّنت اللجنة الإسلامية من نخبة من مفكريهم المرموقين: المستشار طارق البشري، ود. محمد عمارة، ود. محمد سليم العوا، وأ. فهمي هويدي، والفقير إليه تعالى، وانضمّ إليهم د. أحمد صدقي الدجاني، الذي شارك أيضًا مع التيار القومي، فكان هو همزة الوصل بين الفريقين. كما تكوَّنت لجنة مماثلة من النخبة المعتدلة من مفكري القوميين المرموقين. وأعدوا ورقتهم، كما أعد الإسلاميون ورقتهم.

واتفق الفريقان على أن يلتقيا في صورة مؤتمر عام، يقدم فيه كل منهما ورقته، لتناقش بحرية وصراحة ... وبعد ما يقرر المؤتمر من الحذف أو التعديل أو التحسين، أو الإضافة، ينبثق من هذا اللقاء كيان عام يضم القوميين والإسلاميين معًا في هذه المرحلة العصيبة التي تمر بها أمتنا.

ولم توجد - للأسف - دولة عربية ترحِّب بالفريقين غير واحة العرب: لبنان، الذي وسعت أرضه، ووسع صدره هذا المؤتمر التاريخي. وفي المؤتمر قدَّم الدكتور محمد سليم العوا ورقة الإسلاميين، وقدَّم الدكتور أحمد صدقي الدجاني ورقة القوميين.

كلمتي في المؤتمر في شرعية هذا التلاحم:

وتحدَّث عدد من الإسلاميين والقوميين، منهم: يوسف القرضاوي، فقد ألقيت كلمة في تأصيل شرعية هذا التلاحم، وأنه فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع، وإذا لم يتم هذا التلاقي ويتأسس هذا الكيان، فليس هناك غير الطوفان.

لقد انتهى عصر الصراع بين الفريقين، الذي كان يقوده الغلاة من الطرفين. وبدأ عصر جديد، عصر التقارب والتواصل والتضامن، التي يُوجبها علينا الإسلام والعروبة والمصلحة وطبيعة المرحلة، أي عصر أهل الحكمة والاعتدال. وتحدث علامة الشيعة الشيخ محمد حسن فضل الله، وألقى كلمة حول هذا المعنى.

والحمد لله لقد انبثق عن هذا التجمع الكبير: تأسيس المؤتمر القومي الإسلامي، وأجمع المؤتمرون على اختيار الأخ الحبيب المفكر المناضل المعتدل الدكتور أحمد صدقي الدجاني رحمه الله  منسقًا عامًّا للمؤتمر، وكان موضع ارتياح الجميع.

وكان من أعظم إنجازات هذا المؤتمر بعد فترة: إنشاء مؤسسة القدس الدولية.