كثرة الدعوات من الجامعات والمؤسسات العلمية:

كان عقدا الثمانينات والتسعينات من أخصب العقود في نشاطي العلمي والدعوي؛ فقد انهالت عليَّ الدعوات من الشرق والغرب، والشمال والجنوب، لإلقاء محاضرات، أو المشاركة في مؤتمرات أو ندوات، عربية وإسلامية وعالمية.

كانت الدعوات تأتي من الجامعات والمراكز الثقافية، والمعاهد العلمية والفكرية، والمؤسسات العلمية والتربوية والأكاديمية، شعبية ورسمية. وكنت أعتذر عن كثير منها، وأستجيب لبعضها حسب أهميتها من ناحية، وحسب ظروفي الخاصّة من ناحية أخرى.

وأحيانًا يكون في الموعد الواحد أكثر من ندوة أو مؤتمر! فلا بد للمرء من أن يرجِّح أحدهما على الآخر، وَفْق معايير عنده، وكثيرًا ما يعتب الإخوة الداعون، ويلومونني، وأنا والله لا حيلة لي، فوقتي وجهدي وقدرتي لا تتسع للجميع... وقديمًا قالوا: رضا الناس غاية لا تُدرك. وقال الشاعر:

ومن في الناس يرضي كلّ نفس    وبين هوى النفوس مدى بعيد؟!

وقد رأيت كل جماعة تطالبني بزيارة بلدها أو مركزها أو مؤسستها: ترى نفسها أولى الناس بي، وأن حقّهم مقدَّم على حقِّ غيرهم، بل ينظرون، وكأنه لا يوجد أحد غيرهم، وما الذي يمنعني من الاستجابة لطلبهم؟

كثرة الواجبات وازدياد المطالب:

ولقد كنا في مطلع شبابنا نحفظ الوصايا العشر للإمام حسن البنا عليه رحمة الله، وهي وصايا تربوية عملية، ومنها وصية تقول: الواجبات أكثر من الأوقات، فعاون غيرك على الانتفاع بوقته، وإذا كانت لك حاجة، فأوجز في قضائها.

«الواجبات أكثر من الأوقات» كنا نحفظها قولًا، فأصبحنا نعيشها فعلًا؛ فالأوقات محدودة جدًّا، والواجبات المطلوبات من أمثالنا واسعة جدًّا، وكثيرة جدًّا، وهي دائمًا في ازدياد. والعجيب أني كلما تقدَّمت في العمر اتَّسعت هذه الواجبات، وازدادت المطالب، بقدر ثقة الناس وحبهم ورجائهم في استجابتي لهم. فالقوة تضعف، والأعباء تتضاعف، بصورة عكسية.

فماذا يصنع العالِم الداعية أمام هذه المطلوبات منه، إلا أن يأخذ بقول أحد الحكماء: لا تسأل الله أن يخفّف حملك، ولكن سله أن يقوِّي ظهرك! يبدو أنه يرى أن تخفيف الحمل غير وارد، فلم يبق إلا تقوية الظهر، وهو ما يرجوه من الله.

قال لي بعضهم: وزّع الحمل على الأيام، ما لا تفعله اليوم، افعله غدًا، أو بعد غد!

قلت له ما قاله عمر بن عبد العزيز، وقد ناء ظهره بالعمل الدائب في أحد الأيام فقيل له: أخره إلى الغد. فقال: لقد أعجزني عمل يوم واحد، فكيف إذا اجتمع عليَّ عمل يومين معًا؟!

أجل، إن كل يوم تشرق شمسه، يأتي بواجبات جديدة، تشغل كل دقيقة فيه، فكيف ننفقها في غيره؟ وما أبلغ ما قاله ابن عطاء الله في حكمه: حقوق في الأوقات يمكن قضاؤها، وحقوق الأوقات لا يمكن قضاؤها، إذ ما من وقت يرد، إلا ولله عليك فيه حقّ جديد، وأمر أكيد، فكيف تقضي فيه حق غيره، وأنت لم تقض حق الله فيه؟!

الشيخ الطائر:

كنت في تلك السنين أقدم من سفر، لأستعد لسفر آخر، فلا أكاد يستقبلني أهلي حتى يودعوني. وكان بعض الإخوة يقولون عني: الشيخ الطائر. وقد ذكرت من قبل ما قاله لي مرارًا شيخنا وأخونا الكبير الشيخ عبد المعز عبد الستار في قطر، وكان يشفق عليَّ من كثرة الترحال ومتابعته، ويقول: ارفق بنفسك، وخذ من شبابك لهرمك، ومن صحتك لسقمك. ويحكي لي ما قاله بعض شيوخه له يومًا من حكمة بالغة: من جار على شبابه جارت عليه شيخوخته.

ونصحني بعضهم بما نصح به رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن عمرو بن العاص، حين بالغ في العبادة، فقال له: «إنَّ لبدنك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا، وإن لزوْرك عليك حقًّا...»(1) الحديث.

ولكن هذه النصائح على رغم صحتها وحسن نية قائليها، لم تجد لها - من الناحية العملية - مكانًا، فإن حاجة الناس، وحاجة الدعوة، والقضايا الساخنة في الأمة، ومعركة الإسلام وأمته مع أعدائهما، وما يتطلبه ذلك من جهود لا تملك الأمة عشر معشارها: أوجب علينا أن نبذل ما نستطيع لتلبية بعض الحاجات.

الإشارة بإجمال إلى أهم الزيارات التي قمت بها:

لا أستطيع أن أحصر - ولو بالتقريب - الجامعات والمراكز والمؤسسات والهيئات التي دعتني في تلك الفترة، والتي لبيت دعوتها بالفعل، ولكني أستطيع أن أشير إلى رؤوس أقلام أو عناوين لأهمها على الأقل.

لقد شاركت في ملتقيات الفكر الإسلامي في الجزائر كلها من سنة (1982م) إلى (1990م)، إلا ملتقيين تخلّفت عنهما لأعذار ذكرتها في حينها.

وشاركت في عدد غير قليل من مؤتمر «اتحاد الطلاب المسلمين في الولايات المتحدة وكندا» - الذي يعبّرون عنه بـ «MSA» - ومؤتمر رابطة الشباب المسلم العربي، الذي يطلقون عليها اسم: «المايا».

وشاركت في مؤتمرات الطلبة المسلمين في بريطانيا «الفوسس» في لندن ومانشستر وغيرهما لعدد من السنوات.

وشاركت في ندوات البركة الاقتصادية، التي تدعو إليها «دلة البركة» برئاسة الشيخ صالح كامل، وهي ندوات متخصّصة في قضايا الاقتصاد الإسلامي، والتي عقد أكثرها داخل المملكة: جدة، ومكة، والمدينة، وبعضها عقد في الجزائر.

وشاركت في مؤتمرات «قضايا الزكاة المعاصرة» التي عقدت في الكويت والقاهرة وعدد من بلدان الخليج.

وشاركت باستمرار في المؤسسات والمجامع التي اختارتني عضوًا فيها، مثل: المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بمكة، ومؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي أو «المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية» في عمان، ومركز «أوكسفورد» للدراسات الإسلامية في لندن، وقد اخترت عضوًا بمجلس أمنائه.

كما حضرت عددًا غير قليل من دورات «المجمع الفقهي الدولي»، المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، بوصفي أحد خبرائه، قبل أن يختاروني عضوًا فيه.

كما شاركت في مؤتمرات المصارف الإسلامية التي عُقدت في عدد من البلدان: دبي، والكويت، وإستانبول، والقاهرة، وغيرها.

وكذلك شاركت في الندوات والمؤتمرات التي دعت إليها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في الكويت، والتي تجمع بين الفقهاء والأطباء.

محاضراتي في الجامعات:

وحاضرت في عدد من الجامعات، بعضها أكثر من مرة، بعضها محاضرات للطلاب، وبعضها لأعضاء هيئة التدريس: في جامعة القاهرة، وجامعة عين شمس، وجامعة الإسكندرية، وجامعة الأزهر، وجامعة المنصورة، وطنطا، وشبين الكوم، وأسيوط، والمنيا، وغيرها من جامعات مصر.

وحاضرت كذلك في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وخصوصًا في مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي بها، وجامعة أم القرى، وجامعة المدينة المنورة، وقد كنت عضوًا بالمجلس الأعلى بها، وخصوصًا في عهد الأستاذ الدكتور عبد الله زايد.

والتقيت الأساتذة في كلية التربية بجامعة الرياض «الملك سعود» في عهد عميدها الدكتور أحمد التويجري، وكذلك في قسم الثقافة الإسلامية بالجامعة نفسها، في عهد رئيسه الأخ الدكتور أحمد العسال.

وحاضرت أكثر من مرة في جامعة الظهران: «جامعة الملك فهد للبترول»، وأذكر أن الحضور في آخر مرة كان كثيفًا جدًّا، حتى كان الذين خارج القاعة - وهي كبيرة - أضعاف الذين كانوا داخلها.

وحاضرت أكثر من مرة في جامعة الملك فيصل بالدمام والأحساء، ولي قصة معها حول محاضرة للطالبات حكيتها في مقام آخر.

وحاضرت في جامعات الجزائر: جامعة الجزائر، وجامعة باب الزوار، وجامعة العلوم والتكنولوجيا، وجامعة وهران، وجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، وجامعة قسنطينة... وغيرها.

وحاضرت في جامعات المغرب: جامعة محمد الخامس، وجامعة محمد بن عبد الله بفاس، وجامعة القاضي عياض، وبعض كليات الآداب، وغيرها.

وحاضرت في الجامعة الأردنية، وجامعة اليرموك، من جامعات الأردن.

وحاضرت أكثر من مرة في جامعة الكويت، وجامعة الإمارات العربية المتحدة، وجامعة البحرين، وجامعة الخليج.

وحاضرت أكثر من مرة في جامعة الخرطوم، وجامعة أم درمان الإسلامية، وجامعة إفريقيا، وجامعة القرآن الكريم، وغيرها من جامعات السودان.

وحاضرت أكثر من مرة في جامعات ماليزيا الإسلامية والوطنية، وبخاصة الجامعة الإسلامية العالمية. وكذلك في الجامعات الكبرى في إندونيسيا. كما حاضرت في بعض جامعات اليابان، وكوريا الجنوبية.

كما حاضرت في جامعة «دار العلوم» التابعة لندوة العلماء بلكنهو، أكثر من مرة، بدعوة من الشيخ أبي الحسن الندوي، وفي المرة الأولى كان الشيخ غائبًا، والمرة الثانية كانت بحضوره وتشريفه، ومثل ذلك «جامعة الفلاح» في مدينة ببلرياكنج، وجامعة «دار الهدى» في حيدر آباد، والجامعة الإسلامية في حيدر آباد، وجامعة عليكرة أكثر من مرة، والجامعة الملية في نيو دلهي.

كما حاضرت في بعض الجامعات الإسلامية في «بنجلاديش» مثل «جامعة فتيا»، وجامعة الحضارة، والجامعة العلمية الإسلامية في شتيا غونج.

وكذلك جامعة دار العلوم في كراتشي، وجامعة البنجاب في لاهور، ومعهد الإمام المودودي بالمنصورة في لاهور. وقبل ذلك في الجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد، لمرات عدة، وقد كنت عضو مجلس أمنائها.

كما لبيت دعوة مركز أوكسفورد، والكلية الشرقية بلندن للمحاضرة فيها.

وكذلك دعوة من مُجَمّع البحوث الإسلامية، لمحاضرة عن القدس في لندن.

وحاضرت في عدد من كليات الإلهيات في تركيات.

وحاضرت في بعض الجامعات الإيرانية حين زرت إيران في عهد الرئيس السابق محمد خاتمي في طهران وقم ومشهد وأصفهان وغيرها.

واستجبت لدعوات وفيرة يصعب حصرها، من الأندية العلمية والأدبية والثقافية في بلاد الخليج والبحرين والإمارات وعمان والكويت.

وكذلك الجمعيات العلمية والإصلاحية والإسلامية في بلاد الخليج وغيرها.

وأسأله تعالى أن يجعل عملي في هذا كله، خالصًا له، وابتغاء مرضاته، فربما فتح الله لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول، وقد مرض أحد العلماء الصالحين مرض موته، فزاره بعض تلاميذه، فوجدوه يبكي، فقالوا: مثلك يبكي، وأنت الذي فعلت كذا وكذا - يعددون حسناته وفضائله... فقال لهم: وما يدريني أن شيئًا من ذلك قد تقبل مني، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (المائدة:27).

.................

(1) متفق عليه: رواه البخاري (1975)، ومسلم (1159) عن عبد الله بن عمرو.