في هذه الفترة - من أواسط العقد السابع إلى أواسط العقد التاسع من القرن العشرين - قمت بزيارات ومحاضرات مكثفة في مدن المملكة العربية السعودية المختلفة، بدعوات من جامعاتها، أو مراكزها وأنديتها الأدبية والثقافية، أو غيرها من المؤسسات.
دعوات من جامعات المملكة في أكثر من مدينة:
دُعِيتُ إلى جامعة الملك عبد العزيز بجدّة، وخصوصًا: مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، الذي أُنشئ بتوصية من المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي، وكذلك الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وهي التي كنت عضوًا في مجلسها الأعلى في إحدى دوراته. وقد ألقيت فيها بعض المحاضرات العامة، ولا سيما في عهد مديرها أ. د.عبد الله الزايد حفظه الله. ودُعيت من جامعة الرياض أو الملك سعود، ولا سيما كلية التربية التي كان عميدها صديقنا الدكتور أحمد التويجري.
قصة طريفة:
وأذكر في هذا اللقاء طرفة يحسن بي أن أحكيها، فقد التقيت أساتذة الكلية لقاء أحسب أنه كان مثمرًا، فناقشنا فيه أصول التربية، وحقيقة التربية الإسلامية، وأنها تشمل بضعة عشر نوعًا من التربية: العقلية، والخلقية، والبدنية، واللسانية، والعلمية، والمهنية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والجنسية، والفنية «الجمالية»، والدينية، فالتربية الدينية تمثل فرعًا من فروع التربية الإسلامية، وليست هي التربية الإسلامية، كما يتوهم البعض.
وهنا سرَّب إليَّ أحدهم ورقة يقول فيها: كلامك جميل يا أستاذ، فليت فعلك يكون مثل قولك، فإني أرى جبتك ليست إلى نصف الساق، كما جاء في الحديث! والحديث - لو أخذنا بحرفيته - جاء في شأن الإزار، لا الجبة ولا البدلة ولا غيرها. والإزار له وضع خاصّ.
أما إذا نظرنا إلى مقصود النصوص فقد بيَّنته الأحاديث الأخرى: أن علة النهي هي المخيلة، أي: الاختيال والتبختر، وهي من معاصي القلوب، وهذا واضح لمن يتأمل مجموع الأحاديث.
محاضرة الفقيه المسلم وتحديات العصر بالرياض:
ومن الدعوات التي جاءتني من الرياض: دعوة من مؤسسة الملك فيصل الخيرية في أحد مواسمها الثقافية، وقد اقترحت عليّ محاضرة عنوانها: «الفقيه المسلم وتحديات العصر». وقد حضر عدد من رجال الشريعة ورجال الاقتصاد، ورجال الثقافة بصفة عامة... وأذكر من الإخوة الذين أسعدوني بالحضور الأخوين الداعيين الشهيرين: الشيخ منَّاع القطان، والشيخ محمد الراوي، وقد لقياني قبل المحاضرة، وقالا لي: لماذا قبلت الحديث في هذا الموضوع الشائك؟ إنهم يريدون أن يورِّطوك، لتقول كلامًا يصطدم بفكر المشايخ هنا. قلت لهم: لا تراعوا، سأعالج الموضوع بطريقة علمية واقعية ليس فيها تحدّ لأحد، ولن يحدث شيء تخافانه إن شاء الله.
وهذا ما كان. وقال لي الأخوان الكريمان: لقد قلت ما يجب أن يقال دون أن يُحْرَج أحد، وأكملت هذا باستشهادك بشيخي الجماعة: ابن تيمية وابن القيم. قلت: الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
مهرجان الجنادرية:
وفي الرياض أيضًا جاءني أكثر من مرة دعوة للمشاركة في مهرجان الجنادرية الشهير، الذي يحسب على الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد وقتئذ. وكان في أول أمره قد غلب عليه الليبراليون والعِلمانيون واليساريون. ثم ما زالت العناصر الإسلامية الواعية تجهد جهدها، لتطعيم هذا المهرجان بمشاركات إسلامية من شخصيات لها وزنها، وخصوصًا من المجموعة التي تجمع بين السلفية الحقة والتجديد الأصيل.
ولهذا تردّدت في أول الأمر... ثم لما عرفت هذا التوجه الجديد، سرعان ما استجبت، وقد ألقيت بعض المحاضرات، وشاركت في بعض الندوات. واحتفى بي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد احتفاءً خاصًّا.
محاضراتي في ناديي مكة وجدة الأدبيين:
ومما شاركت به في مكة المكرمة: أني استجبت أكثر من مرة لدعوة النادي الأدبي فيها وإلقاء أكثر من محاضرة، أذكر أن إحداها كانت بعنوان: «الداعية المسلم وتحديات العصر»، على غرار محاضرة الرياض: «الفقيه المسلم وتحديات العصر». كما ألقيت محاضرة في النادي الأدبي بجدة.
جامعة الملك فهد للبترول:
ودُعيت أكثر من مرة للمحاضرة في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن «جامعة الظهران». وفي إحدى المرات حاولت أن أعتذر، فقالوا: إن المحاضرات لا تقام إلا بموافقة ملكية سابقة، أو بتعبيرهم: موافقة المقام السامي، فلا تضيع علينا هذه الموافقة.
وقد علمت أنَّ كل المحاضرات لا بدَّ أن توجد فيها هذه الموافقة، وقد أكدَّ لي كل الذين دعوني: أن الموافقة عليَّ من الجهات العليا تصدر بسهولة، فقد كان مرضيًّا عني في تلك الفترة.
ومما أذكره: آخر محاضرة لي في جامعة الملك فهد، فقد كان فيها حضور كثيف ملأ القاعة الكبيرة جلوسًا ووقوفًا، وخارج القاعة، مما قدَّره بعضهم بنحو خمسة آلاف، وهذا قلما يحدث.
جامعة الملك فيصل في الأحساء والدمام:
ومن الجامعات التي دعيت إليها أكثر من مرة: جامعة الملك فيصل في الأحساء والدمام، بدعوة من مديرها الأستاذ الدكتور محمد سعيد القحطاني حفظه الله.
لقاء للطالبات لم يتم:
ومما لا أنساه في إحدى هذه الزيارات: أني حين وصلت بعد الظهر إلى الأحساء، قال لي الدكتور القحطاني: أعرف أنك تعبت من السفر، ولكن الطالبات رغبن أن يلتقينك في لقاء خاص. قلت: ولماذا لا يحضرن المحاضرة العامة في المساء؟
قال: الدعاة المشاهير يزدحم عليهم الجمهور ويكون الحضور كبيرًا، فلا يجدن لهنّ مكانًا؛ لهذا أردن هذا اللقاء، حتى يستطعن الحوار معك ويسألنك وتجيبهن.
قلت: على بركة الله، إنما جئت لأسمَع وأُسمِع.
وصحبني عميد كلية الآداب، وقال لي: إنَّ عدد الطالبات ربما يبلغ ألفًا.
قلت: أليس هناك مكبّر صوت «ميكروفون»؟
قال: بلى. قلت: فليكن العدد ما يكون.
لا أستطيع أن أقف لأكلم الكراسي!
وانتقلت مع عميد كلية الآداب إلى القاعة التي فيها اللقاء، ودخلنا بالفعل قاعة كبيرة، فيها ما يقرب من ألف مقعد أو كرسي، وقال العميد: تفضّل إلى المنصّة، قلت: أي منصّة؟
قال: منصّة القاعة.
قلت: ولكني لا أجد طالبات في القاعة!
قال: الطالبات في قاعة مجاورة، وهنَّ يشاهدنك عن طريق جهاز تليفزيون.
قلت: ولكن لا يوجد هنا في القاعة من أخاطب، أأقف وحدي في القاعة لأكلم الكراسي؟!
قال: تكلم الطالبات، ولكن من وراء ستار.
قلت: وما المحظور في أن أكلمهنَّ مباشرة بلا ستار ولا حجاب؟ ألم يكن النساء يحضرن في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال، ويخاطب الجميع؟ وحتى حين طلبن يومًا لهن خاصة، كان يلقاهنَّ وجهًا لوجه.
وفي المسجد يصلي الجميع خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلف كل إمام بعده الصفوف الأمامية للرجال، والصفوف الخلفية للنساء، وليس بينهما أي حاجز من بناء أو خشب أو قماش أو غير ذلك.
ولا يوجد في الإسلام مسجد خاص بالنساء. المسجد للرجال والنساء جميعًا، ثم ماذا يحدث إذا خاطبتهن وجهًا لوجه، وأنا رجل واحد، وهنّ ألف امرأة؟!
قال الدكتور: وما الحل؟
قلت: الحل عندكم، أنا شخصيًّا لا أستطيع أن أقف في قاعة ليس فيها أحد، وأكلم أناسًا لا أراهم.
قال: نستشير مدير الجامعة. واتصل العميد بالمدير، وأبلغه بموقفي. فقال: أعطني الشيخ، فكلمني، وقال: هذا أمر لا أملكه ولا أستطيع أن أتخذ فيه أمرًا، هذه سياسة عليا.
قلت: وأنا لست ملزمًا بهذه السياسة.
قال: هذا من حقك، ونحن نعتذر للطالبات بعذر أو آخر. وهذا ما كان.
التعاون مع رابطة العالم الإسلامي:
ومن المؤسسات التي كنت أتعاون معها في المملكة: رابطة العالم الإسلامي. وأول دعوة جاءتني منها: المشاركة في «مؤتمر رسالة المسجد»، وكان مؤتمرًا كبيرًا، حضره جمٌّ غفير من أهل العلم والدعوة من أنحاء العالم.
المجلس الأعلى العالمي للمساجد:
وكان يشارك فيه شيخنا الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر، وكان من الأفكار العملية التي طرحها شيخنا: أن نخرج من هذا المؤتمر بشيء عملي ينفع الأمة الإسلامية، وهو تأسيس المجلس الأعلى العالمي للمساجد، ليكون في مقابلة «المجلس العالمي للكنائس في أمريكا». واستجيب لدعوة الشيخ، واتُّخذ قرار بهذا الأمر.
مع الأمين المساعد للرابطة الأستاذ صفوت السقا:
وكان الأمين المساعد للرابطة الأستاذ صفوت السقا أمين، وقد كلَّف لجنة من بعض الإسلاميين من السعوديين والخليجيين، لترشيح أعضاء المجلس المنشود، فكان حوالي (80%) من المختارين من الإخوان المسلمين في البلاد العربية والجماعة الإسلامية في باكستان والهند. فرفض الأمين المساعد هذا الاختيار، وحق له، فالتوازن مطلوب في هذه الأمور. وكنت ممن اختاروهم في اللجنة الأولى، فاختاروا قائمة أخرى معظمها مغاير للقائمة الأولى.
وعرض عليَّ الأستاذ صفوت السقا: أن أتولَّى منصب الأمين العام للمجمع الفقهي للرابطة، وقلت له: أنا لا أستطيع أن أدع عملي العلميّ والفكري للاشتغال بأيِّ عمل إداري مهما تكن منزلته، وكلٌّ ميسَّر لما خلق له.
اختياري عضوًا بالمجمع الفقهي:
وبعد ذلك، اختاروني عضوًا بالمجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، الذي يرأسه العلَّامة الشيخ عبد العزيز بن باز، ومعه الشيخ الندوي، والزرقا، وأبو سنة، والصواف، وابن جبرين، والفوزان، والبسام، وغيرهم. وقد حرصت على حضور جلساته، وتقديم الأبحاث إليه ما استطعت، ولا أتخلف إلا لعذر.
الندوة العالمية للشباب المسلم:
ومن المؤسسات السعودية التي تعاونت معها: الندوة العالمية للشباب المسلم، منذ بداية تأسيسها، وكان أمينها العام الدكتور عبد الحميد أبو سلمان، والذي دعا في أحد اجتماعاته الأولى عددًا كبيرًا من رجال الفكر والعلم، ورجال المال والأعمال، لينشئ صندوقًا للإنفاق على أنشطة هذه المؤسسة.
وكان يرعى هذا الاجتماع العالِم الفاضل، والوزير الصالح: معالي الشيخ حسن عبد الله آل الشيخ رحمه الله تعالى. وقد أوصى هذا الاجتماع بوصايا كان لها أثرها فيما بعد.
وقد تعاونت مع كل من تولوا الأمانة العامة لهذه الندوة، وخصوصًا الأخ الحبيب الداعية الواعي المخلص النشيط: د. مانع الجهني رحمه الله ، وتقبَّله في الشهداء.
وحضرتُ معهم مخيَّمات للشباب، في بلاد شتى، في أوروبا، وفي الأردن، وفي ماليزيا، وفي غيرها.