ينبغي أن نربي الناس على أن يسع بعضهم بعضا , ويقبل بعضهم بعضا , وإن تخالفوا دينيا |
أرسل الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي رسالة إلى الرئيس الفرنسي جاك شيراك، عبر السفارة الفرنسية بالدوحة، عصر أول أمس 23/12/2003م، وذلك ردا على دعوة شيراك لمنع الحجاب باعتباره رمزا دينيا يدعو للعصبية والتمييز العنصري في المجتمع، وقد أرسلت السفارة الفرنسية أول أمس للشيخ القرضاوي بعد أن خطب خطبته الأخيرة نص خطاب الرئيس شيراك بعد ترجمته للغة العربية، وهذا نص رسالة الشيخ القرضاوي للرئيس الفرنسي جاك شيراك.
بسم الله الرحمن الرحيم
فخامة الرئيس جاك شيراك
رئيس الجمهورية الفرنسية
بعد التحية اللائقة بمقامكم
يسرني أن أخاطبكم باسمي شخصيا وباسم المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث الذي يمثل المرجعية الدينية لمسلمي أوربا , والذي حرص خلال دوراته السابقة كلها :على أن يوصي المسلمين ويؤكد عليهم :أن يحسنوا التعامل مع المجتمعات التي يعيشون به وأن يندمجوا فيه ولا ينغلقوا على ذواتهم في صوامع منعزلة عنها , مع محافظتهم على شخصيتهم الدينية , وأن يكونوا عناصر إيجابية نافعة في خدمة المجتمع وتنميته ,وأن يكونوا دعاة محبة ووحدة لا دعاة كراهية وتفرقة .
وباسم علماء المسلمين الذين يمثلون ملياراً وثلثا من البشر في قارات الدنيا , والذين أحسنوا الظن بفرنسا في السنوات الأخيرة ,و أكنوا لها الود والتعاطف والتقدير, لمواقفها الشجاعة المستقلة التي رفضت أن تسير في الركاب الأمريكي ,وأن تؤيد التحيز الأمريكي ,والتجبر الأمريكي.
سيادة الرئيس:
إنني باسمي واسم هؤلاء أعلن شديد أسفي , لما قرأناه وسمعناه من توجه فرنسي لمنع الطالبات المسلمات من ارتداء الحجاب في المدارس, وهو ما أستغربه كل الاستغراب ,وأنكره غاية الإنكار, فهو يجبر المسلمة أن تخالف دينها , وتعصي أمر ربها الذي قال في كتابه: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن), ووجوب الحجاب على المرأة المسلمة أمر أجمعت عليه كل المذاهب والمدارس الإسلامية سنية وشيعية وزيدية وأباضية.
وقد ساءنا وآلمنا أن يصدر هذا التوجه – الذي لا نملك أن نصفه إلا بالتعصب ضد التعاليم الإسلامية , والقيم الإسلامية – من فرنسا خاصة , بلد الحرية والانفتاح , وأم الثورة التي نادت بالحرية والمساواة والإخاء, والتي فيها أكبر مجموعة إسلامية في أوربا.
فهذا التوجه ينافي حريتين أساسيتين من الحريات التي هي من حقوق الإنسان : الحرية الشخصية, والحرية الدينية . وقد أكدتهما كل الدساتير ومواثيق حقوق الإنسان .
ودعوى الحفاظ على علمانية المجتمع : لا تقوم على أساس منطقي سليم ,لأن العلمانية في المجتمع الليبرالي معناها : أن تقف الدولة موقف الحياد من الدين , فلا تقبله ولا ترفضه , ولا تؤيده ولا تعاديه .وتدع حرية التدين أو عدمها للأفراد , بخلاف العلمانية الماركسية , فهي التي تعادي التدين , وتعتبر الدين -كل الدين - أفيون الشعوب, وهي تنفي الإله عن الكون , والروح عن الإنسان .
ودعوى أن الحجاب رمز ديني : دعوى مرفوضة , فالحجاب ليس رمزا بحال . لأن الرمز ما ليس له وظيفة إلا التعبير عن الانتماء الديني لصاحبه ,مثل الصليب على صدر المسيحي أو المسيحية ,والقلنسوة الصغيرة على رأس اليهودي , فلا وظيفة لهما إلا الإعلان عن الهوية .
وهذا بخلاف الحجاب فإن له وظيفة معروفة , هي الستر والحشمة , ولا يخطر ببال من تلبسه من المسلمات : أنها تعلن عن نفسها وعن دينه ولكنها تطيع أمر ربها .
هذا وإن منع المسلمات من الحجاب كما عارض مبدأ الحرية : يعارض مبدأ المساواة الذي نادت به الثورة الفرنسية , وأقرتها الشرائع السماوية والمواثيق الدولية , وحقوق الإنسان ,لأن معنى هذا القرار : اضطهاد المتدينة والتضييق عليها , وحرمانها من حقوقها من التعلم أو التوظف ,والتوسعة على غير المسلمة, وغير المتدينة من المسلمات .
إن الحضارة الحقة هي التي تتسم بالتسامح , ويتسع صدرها للتنوع الديني والثقافي, وتسمح بالتعددية العرقية والدينية والفكرية . و لا تحاول أن تجعل كل الناس نسخا مكررة.
ينبغي أن نربي الناس على أن يسع بعضهم بعضا , ويقبل بعضهم بعضا , وإن تخالفوا دينيا كما علمنا القرآن حين قال : (لكم دينكم ولي دين ).
وقد ساءنا كثيرا – يا فخامة الرئيس – اعتباركم الحجاب عدوانية ضد الآخرين. فأي عدوانية من فتاة تلتزم بتعاليم دينها في زيها ؟ إن العدوان لا يخشى من إنسان يعرف الله ويتقيه ,رجلا كان أم امرأة.
سيادة الرئيس
إن من حق الأغلبية في المجتمع الديمقراطي أن تسن ما تراه من القوانين , ولكن الديمقراطية العادلة هي التي ترعى حقوق الأقليات :دينية أو عرقية , ولا تجور عليها , وإلا حكمنا على الأقليات بالفناء باسم الديمقراطية وحكم الأغلبية .
سيادة الرئيس
إني أخاطبك بوصفك رب العائلة الفرنسية , ومن شأن أبي العائلة المسؤول عنها : أن يسوي بين أولاده جميعا , ولا يقهر بعضهم لحساب بعض . والأب الرحيم لا يرضيه أن يعيش بعض أولاده في قلق وانزعاج دائم .
إننا نشكر لكم إعلانكم الوقوف ضد تيار العنصرية و الكراهية للأجانب , كما نشكر لكم ما ذكرتموه عن حرية ممارسة الشعائر الدينية للجميع , وعن ضرورة توفير دور العبادة للمسلمين ليمارسوا شعائرهم بوقار وطمأنينة , والإقرار بأنه لا يزال هناك الكثير مما ينبغي فعله وإنجازه , ومن ذلك تأهيل جمع من الأئمة المثقفين والمعاصرين .
وإن الذي يحقق هذا الأمر الذي تصبون إليه هو تيار( الوسطية الإسلامية ) الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة , ويقوم على التيسير لا التعسير , والتبشير لا التنفير , ويعتمد الحوار مع الآخر , والتسامح مع المخالف , ويؤمن بإنسانية واحدة ,تسعى لتحقيق الخير للجميع, وهو ما يجسده المجلس الأوربي للإفتاء .
أملنا – يا فخامة الرئيس – أن تراجعوا قراركم , ففي هذا الخير والمصلحة للجميع .
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام والتقدير.
يوسف القرضاوي
في 29-10-1424هـ
رئيس المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث
ومدير مركز بحوث السنة والسيرة بجامعة قطر