د. يوسف القرضاوي

العلم قيمة من القيم العليا، التي جاء بها الإسلام وأقام عليها حياة الإنسان المعنوية والمادية، الأخروية والدنيوية، وجعله طريق الإيمان وداعي العمل، وهو المرشح الأول للخلافة في الأرض، وبه فضل آدم أبو البشر على الملائكة، الذين تطلعوا إلى منصب الخلافة! لأنهم أعبد لله من الذين توقعوا منهم أن يفسدوا في الأرض ويسفكوا الدماء، فقال تعالى رداً عليهم: " إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا..." الآيات. (البقرة:30-31)

إن الإسلام هو دين العلم، والقرآن كتاب العلم، وأول ما نزل منه على الرسول الكريم: " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ"(العلق:1) والقراءة هي باب العلم. والقرآن:  "كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ"(فصلت:3). 

والقرآن يجعل العلم أساس التفاضل بين الناس: " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ"(الزمر:9). كما يجعل أهل العلم هم الشهداء لله تعالى بالتوحيد، مع الملائكة: " أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ"(آل عمران:18). 

وأهل العلم كذلك هم المؤهلون لخشيه الله تعالى وتقواه "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء"(فاطر:28)، فلا يخشى الله إلا من عرفه، وإنما يعرف الله بآثار قدرته ورحمته في خلقه؛ ولهذا جاءت هذه الجملة في سياق الحديث عن آيات الله تعالى في الكون: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء"(فاطر:27-28).

والقرآن أعظم كتاب ينشئ "العقلية العلمية" التي تنبذ الخرافة، وتتمرد على التقليد الأعمى، للأجداد والآباء أو للسادة والكبراء، أو للعوام والدهماء، وترفض الظنون والأهواء في مقام البحث عن الحقائق والعقائد اليقينية، ولا تقبل دعوى إلا ببرهان قاطع، من المشاهدة المؤكدة في الحسيات، ومن المنطق السليم في العقليات، ومن النقل الموثق في المرويات. ويعتبر القرآن النظر فريضة، والتفكير عبادة، والبحث عن الحقيقة قربة، واستخدام أدوات المعرفة شكراً لنعم الله، وتعطيلها سبيلاً إلى جهنم.

اقرأ هذه الآيات في القرآن، وهى غيض من فيض: " وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ"(البقرة:170) " وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا" (الأحزاب:67-68).

قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ" (الأعراف:38)

"وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا" (النجم:28)

"إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى" (النجم:23)

"وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ" (ص:26)

"وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (النحل:78)

"وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً" (الإسراء"36)

" نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (الأنعام:143)

"قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ" (الأنعام:148)

"ئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (الأحقاف:4)

"قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (البقرة:111)

"أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ" (الأعراف:185)

"قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" (يونس:101)

"قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا" (سبأ:46)

وينوه القرآن في كثير من آياته بـ" أولى الألباب"، و"أولى النهى"، "وأولى الأبصار". والمراد بالبصر هنا: العقلي لا الحسي.

ويبين في كتابه المسطور "القرآن"، وكتابه المنظور "الكون" آيات "لقوم يتفكرون"، و"لقوم يعقلون"، و"لقوم يعلمون"، وكم فيه من فواصل تنبه العقول الغافلة مثل: "أفلا تعقلون"؟ ، "أفلا تتفكرون"؟

وعلماء الإسلام متفقون على أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وأن منه ما هو فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية، ففرض العين ما لا بد للمسلم منه في فهم دينه عقيدة وعبادة وسلوكاً، وفي عمل دنياه، حتى يكفي نفسه وأسرته، ويهم في كفاية أمته. وفرض الكفاية كل ما به قوام الدين والدنيا للجماعة المسلمة، من علوم الدين وعلوم الدنيا .

ولهذا قرر علماء المسلمين أن تعلم الطب والهندسة وغيرهما من فروع العلم، وكذلك تعلم الصناعات التي لا تقوم حياة الناس إلا بها، فرض كفاية على الأمة، فإذا وجد فيها عدد كاف من العلماء والخبراء، والفنيين في كل مجال، بحيث تسد به الثغرات وتلبى الحاجات، فقد أدت الأمة واجبها وسقط الإثم والحرج عنها، وإذا قصرت الأمة في جانب من هذه الجوانب الدنيوية، وغدت عالة على غيرها كلياً أو جزئياً، فالأمة كلها آثمة، وبخاصة أولو الأمر فيها.

وعلى ضوء هذه المعاني قامت حضارة إسلامية رفيعة البنيان، متينة الأركان، جامعة بين العلم والإيمان، ولم يعرف في هذه الحضارة ما عرف في أمم أخرى من الصراع بين العلم والدين، أو بين الحكمة والشريعة، أو بين العقل والنقل، بل كان كثير من علماء الشرع أطباء ورياضيين وكيمائيين وفلكيين وغيرهم (مثل: ابن رشد والفخر الرازي والخوارزمي وابن النفيس وابن خلدون وغيرهم).

وقد بين الإمام محمد عبده أن أصول الإسلام تتفق كل الاتفاق مع العلم والمدنية، وأقام على ذلك البراهين الناصعة من نصوص الدين ومن تاريخ المسلمين، وذلك في كتابه القيم "الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية".

.....................

* من كتاب "ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده" لفضيلة العلامة.