د. يوسف القرضاوي

روى الإمام مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (المؤمنون:51)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (البقرة:172)، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السماء يقول: يا رب ... يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك"(1) .

معنى الطيب

الطيب هنا بمعنى: الطاهر النظيف، والله تعالى طاهر مُنزَّه مقدَّس، إنه تعالى مُتصف بكل كمال، مُنزَّه عن كل نقص وعيب.

الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، فهو لا يقبل من الأعمال إلا طيبًا، ولا يقبل من الأقوال إلا طيبًا، ولا يقبل من العقائد إلا طيبًا، ولا يقبل من الخلق عنده إلا طيبًا.

الكلمة الخبيثة لا تقبل عند الله، والعمل الخبيث لا يقبل عند الله، والإنسان الخبيث لا يقبل عند الله ... وكل هذه الأشياء تنقسم إلى طيب وخبيث ... {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (المائدة:100)، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} (إبراهيم:24 -26) .

الكلمة الطيبة تُقبل عند الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر:10)، والإنسان الطيب مقبول عند الله، والإنسان الخبيث مرفوض مكروه من الله، لا يدخل الجنة إلا طيب، {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل:32)، هنالك يدخل عليهم خَزَنة الجنة محيين مكرمين قائلين: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (الزمر:73). أما ذو القلب الخبيث، والعمل الخبيث، والاعتقاد الخبيث؛ فهيهات هيهات أن يَرِد ماء الجنة، أو يأكل من ثمارها، لا بد أن يُطيب قلبه ويطهره، إما بماء الدموع والتوبة في الدنيا، وإما بنار الآخرة ...

لا يقبل الله مالاً خبيثًا

والله لا يقبل من العمل إلا ما كان طيبًا، وخاصة الصدقة ... فإن الله لا يقبل إلا الطيب من الصدقات ... فإذا اكتسب الإنسان ماله من سُحت، من خبث، من حرام، فإن الله سبحانه لا يقبل منه صدقة يتصدقها ... وكيف يقبل صدقة من مال خبيث؟! إن الإسلام لا يقول لمَن كسب المال من السُحت والحرام: تصدَّق به، وأنفقه في سبيل الله. بل يقول له: طهِّر مالك أولاً ... ردَّه على أصحابه، ردَّه إلى مَن ظلمتهم وأخذتَ منهم هذا المال بغير حق ... ولهذا روى الإمام مسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "لا تقبل صلاة بغير طُهُور، ولا صدقة من غُلُول" (2)، والغُلُول: هي الخيانة، والأخذ من المال العام، كمال الغنائم، ومال الدولة، وغير ذلك.

صدقة جزاؤها الجنة

فمَن أخذ مالاً من حرام، ثم أراد أن ينفقه في الخير، مثل أن يبني به مسجدًا أو يعمل به مشروعًا خيريًا، أو يتصدَّق به على مسكين، فإن الله لا يقبل منه ذلك أبدًا. وقد قيل لأبي الدرداء رضي الله عنه فيمن فعل ذلك، فقال: مثل مَن فعل ذلك كمَن أخذ مال يتيم وكسا به أرملة (3). أي إن مال اليتيم، مَن أكله، فإنما يأكل في بطنه نارًا وسيصلى سعيرًا، فكيف يأخذ المال بغير حق، ليكسوَ به أرملة؟! ليُطبْ مطعمه أولاً، وليبحث عن كسبه أولاً، وهذا الكسب يجب أن يكون حلالاً؛ ولهذا جاء في الحديث الشريف: "مَن كسب مالاً من حرام، ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه"(4) .

الوزر والعقاب عليه، وليس له أجر ولا ثواب في هذه الصدقة، ولا في ذلك الإنفاق ... لأنه في الحقيقة يتصدق بغير ماله، وبغير ما يملك، لأن الحرام لا يملك ... مهما ظلَّ في حوزة مَن وضع يده عليه بغير حق، ولو امتدَّ ذلك السنين الطوال، فإن مضي الزمن في الإسلام لا يحل الحرام، ولا يبيح المحظور، ولا يسلب السرقة صفتها الأولى.

بعض القوانين الوضعية تنصُّ على أنه إذا مرَّ على المِلك غير الشرعي في يد صاحبه، مدة تطول أو تقصر، يصبح ملكًا له، ويُتغاضى عن أصل هذا المال!! ولكن الإسلام لا يعتبر ذلك أبدًا، ولا يعتبر مالاً أصله حرام، ولا يعتدّ به مهما طال الزمن ...المال الحرام مهما تصدَّق به الإنسان أو أنفق، أو أسَّس به مشروعات للبرِّ والخير، فإن الله لا يقبلها.

روى الإمام أحمد، عن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله قسَّم بينكم أخلاقكم كما قسَّم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا مَن يحب ومَن لا يحب، ولكنه لا يعطي الدين إلا مَن أحب، فمَن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يُسلم عبد حتى يُسلم قلبه ولسانه"، وفي رواية: "لا يَسلم عبد حتى يَسلم قلبه ولسانه (بفتح الياء)، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه"، قالوا: وما بوائقه؟ قال: "غشه وظلمه"، ثم قال: "ولا يكسب عبد مالاً من حرام فيتصدق به فيقبل منه، أو ينفقه فيبارك له فيه، أو يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، وإنما يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث"(5) .

فإذا كسب الإنسان ماله من حرام، ثم أراد أن يطهره بالصدقة، فهذا كمن يغسل القاذورات بالبول، لا يمكن أن يطهر القذر بهذا النجس. إن الصدقة تنفع إذا كانت من كسب طيب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "من تصدق بعدل تمرة -بمثل أو بقيمة تمرة- من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيبًا، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يُرَبِّيها لصاحبها، كما يُرَبَّي أحدكم فَلُوَّه -أي المهر الصغير- حتى تكون مثل جبل أحد"(6).

أما الكسب الحرام فإن لا يَرُوج عند الله، ولا يقبل عند الله. أن يكسب الإنسان ماله من سُحت، من غَصب، من سرقة، من رِشوة، أن يكسب أمواله من تلك الوجوه الخبيثة والموارد المنتنة، ثم يحاول أن يضحك على الله، فيأتي لينفق ويتصدق، فإن الله لا يُضحَكُ عليه، ولا يَرُوج عند الزَّيف، وإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا.

روي في الحديث: "إذا خرج الرجل حاجا بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك اللهم لبيك. ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور. وإذا خرج بالنفقة الخبيثة، فوضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك. ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك غير مبرور"(7) .

إن الله لا يقبل إلا طيبًا... طيِّبوا مطاعمكم ومكاسبكم أولاً.

........................

*من كتاب "في رحاب السنة" لفضيلة العلامة.

(1) رواه مسلم في الزكاة (1015)، وأحمد في المسند (8348)، والترمذي في تفسير القرآن (2989)، عن أبي هريرة.

(2) رواه مسلم في كتاب الطهارة (224)، وأحمد في المسند (4700)، والترمذي في الطهارة (1)، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها (272)، عن ابن عمر.

(3) جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي صـ102، طبعة دار المعرفة بيروت.

(4) رواه ابن خزيمة في صحيحه كتاب الزكاة (4/ 110)، وابن حبان في صحيحه كتاب الزكاة (8/ 11)، وقال الأرناؤوط: إسناده حسن، والحاكم في المستدرك (1/ 548)، وصححه، والبيهقي في الكبرى كتاب الزكاة (4/ 84)، عن أبي هريرة، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (752) .

(5) رواه أحمد في المسند (3672) عن ابن مسعود، وقال محققوه: إسناده ضعيف لضعف الصباح بن محمد، والبزار في المسند (5/ 392)، والبيهقي في الشعب باب في قبض اليد على الأموال (4/ 395) وأبو نعيم في الحلية (4/ 66)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد ورجال إسناده بعضهم مستور وأكثرهم ثقات (1/ 213) .

(6) متفق عليه: رواه البخاري في الزكاة (1410)، ومسلم في الزكاة (1014)، وأحمد في المسند (8381)، عن أبي هريرة.

(7) رواه الطبراني في الأوسط (5/ 251)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط وفيه سليمان بن داود اليماني وهو ضعيف (10/ 522)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (4403) .