د. حسن فوزي

هذا الكتاب لم يقف عند حدود البحث عن عورات الحلول المستوردة وتعريتها وكشف مساوئها وأساليب خداعها وزيفها، وما أدت إليه من التحلل والضياع، وإنما جاء ليواجهها بالفكر الإسلامي الأصيل.

وفضيلة الشيخ القرضاوي يعرض هنا قضية تعيش في أذهاننا ونحياها، وكما أنه يحلل الداء من الواقع والأحداث، فإنه يصف الدواء من شريعة الإسلام، بمصادرها الأصيلة.

فيكشف كيف عُزل الإسلام عن قيادة المجتمع؟ وكيف دخلت الحلول الأجنبية المصطنعة بلادنا؟ وكيف كان أثر الزحف الغربي على بلاد المسلمين؟ وما هي وسائلهم؟

وينتقل فضيلة الإمام إلى الحديث عن التجربة الليبرالية وأثرها في المجال الاقتصادي والاجتماعي وعلى الحياة النيابية، ولماذا فشلت الليبرالية في بلادنا؟

ثم يتطرق سماحته إلى فشل الحل الاشتراكي أيضا، وكيف دخلت فكرة القومية العربية إلى المجتمع الإسلامي، وكيف فشلت كل دعوات الوحدة العربية تحت غطاء القومية العربية أو الاشتراكية الثورية. ثم يحاكم هذه النظرية وفق نتائجها متسائلا: هل تحرر الوطن العربي عسكريا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا؟ وما مصير الحريات العامة والخاصة، وأين وصل أمن الوطن والمواطن؟

ثم يتحدث عن أسباب فشل الاشتركية أخلاقيا، فهم قوم بلا مبادئ أو قيم، وهم قوم ليس لديهم قدوة صالحة أو نبراس يتأسون به.. إنهم يقودون أمة لا يعرفونها.

أراد سماحة الإمام القرضاوي في هذا البحث بيان جناية الحلول المستوردة (الليبرالية والاشتراكية) على أمتنا، وكيف عوقت نهضتها، وسارت بها في غير الاتجاه الصحيح، وضرورة الاتجاه إلى الحل الإسلامي باعتباره الحل الوحيد لإنقاذ الأمة والحفاظ على وجودها.

يقول سماحته: إن أهدافنا السياسية الكبرى في العالم العربي على سبيل المثال لم تتحقق، ولم نقترب من تحقيقها؛ بل زدنا عنها بعدا.

فقد ضعف الأمل في الوحدة العربية، للخلاف العقائدي بين المحافظين من دعاة اليمين، والثوريين من دعاة اليسار، وهو خلاف لا يرجى زواله إلا بزوال هذه الأفكار الدخيلة نفسها. وقضية فلسطين المحورية لم تحل، ولم تقترب من الحل؛ بل زادت تعقيدا نتيجة الحرب التي قادها الثوريون العرب، وكانت عاقبتها نكبة أدهى وأمر من النكبة الأولى (1948)، بعد تسعة عشر عاما من الاستعداد للثأر لم نر خلف الأكمة شيئا، ولا تحت القبة شيخا، بل كما يقول العرب: أطال الغيبة وأتى بالخيبة.

قضية الرخاء الاقتصادي.. لا تزال الطبقات الفقيرة تشكو العوز والفاقة وضيق العيش. أما قضية الحرية السياسية.. سوء الأخلاق.. فساد الذمم.. اضطراب الأسرة.. تفكك المجتمع، فحدث عنه ولا حرج. وبعد استعراض هذه النتائج المحزنة يدعو فضيلة الشيخ للعودة إلى الإسلام قائلا: كل هذه النتائج تحتم علينا أن نسير إلى الإسلام، لنحل به عقد حياتنا، ونعالج به مشكلاتنا، ونحقق في ظله أهدافنا الكبرى، وكفى ما ضاع من عمر أمتنا في التجارب والتخبط. ويتحدث عن صلة الشعوب الإسلامية بدينها قائلا: إذا كنا نؤمن بالديمقراطية السياسية والنزول على رأي الأغلبية فجماهير أمتنا لم تكفر يوما بعدالة أحكام ربها، ولم تتخل يوما عن قرآنها. آن للشعوب العربية والإسلامية أن تتحرر من التبعية للغرب والشرق، وأن ترفض كل حل مستورد، وكل منهج دخيل. وآن لقادة هذه الشعوب وحكامها وأهل الحل والعقد فيها أن يدركوا هذه الحقيقة الكبيرة، ويعلنوها صريحة مدوية: لسنا عبيدا لليمين ولا لليسار.

لا تزال شعوبنا العربية والإسلامية بقلوبها وعاطفتها ترى الإسلام أقوى شيء في وجودها.

ويقرر أن أمتنا لم تكن بحاجة إلى حلول مستوردة، مستمدة من أيديولوجيات أجنبية عنها، وهذه الحلول المصطنعة لم تكن حتمية تاريخية، ولم تكن ملائمة؛ بل كانت معوقة وضارة بدنيا أمتنا، فضلا عن مناقضتها لدينها.

ويدعو إلى رحابة صدر الآخرين للفكر الإسلامي قائلا: أرجو من أنصار الحل الليبرالي أو الحل الاشتراكي أن يكونوا منصفين، وأن يفتحوا صدورهم للتيارات الأخرى.

فإن تجبر الجاهلية وضغطها الخانق على دعاة الإسلام، ورفضها كل لغة للتفاهم إلا لغة السياط تلهب، والنيران تكوي، والمشانق تقتل، كل هذا يجعلنا نكتب ونتحدث بحرارة المظلوم ومرارة المكلوم. ومن حق الملدوغ أن يتأوه، ومن حق الثكلى أن تبكي.

ويدعو إلى الحرية الفكرية لتشمل أبناء التيار الإسلامي، كما شملت غيرهم من الليبراليين والاشتراكيين قائلا: لقد خلق الله الألسنة لتتكلم، والأقلام لتكتب وتعبر.

وإن مصيبتنا تزداد إذا أسكتنا الأقلام الحرة، وأرخينا العِنان لألسنة المداحين، وأقلام المنافقين، وكذلك إذا تركنا لونا فكريا واحدا يعرض نفسه دون مزاحم أو منافس، محتكرا سوق الصحافة والإعلام والتأليف والنشر، فنفرض على المجتمع بضاعة الفكر الماركسي أو الليبرالي، على حين توضع الحواجز والعراقيل والمعوقات في طريق الفكر الإسلامي الأصيل.

والمعقول أن ينفرد الفكر الإسلامي بالسوق في ديار الإسلام وأرض الإسلام. فإن لم يكن الانفراد للفكر الإسلامي فلتكن له على الأقل الأولوية في العرض والترويج والحماية والرعاية. وإن لم يكن هذا ولا ذاك، فأدنى ما يقبله منطق أن نسوي بين الأصيل والدخيل، ولا نضيق كل التضييق على البضاعة الوطنية، ونفسح المجال -كل المجال- للبضاعة المستوردة. وليت شعري ماذا يضير القوم أن يظهر في سوق الفكر كتاب يعارضهم أو يخالف وجهتهم، قد يجدون فيه كلمة تنبه غافلا إلى الحق، أو تذكر ناسيا بالله، أو ترد متطرفا إلى الاعتدال.

وينتقد فضيلة الإمام القرضاوي الحجر على إرادة الشعوب ووعيها قائلا: إن سياسة استمرار إغلاق النوافذ على الشعب، وحبسه في إطار فكري معين، بدعوى حمايته من أعدائه الرجعيين: فيه اتهام للشعب بالقصور والطفولة، وحاجته إلى وصاية دائمة من فئة من الناس تتحكم فيه تحكم القَيِّم في اليتيم القاصر، فضلا عن أن سياسة إغلاق النوافذ لا تنتج إلا فساد الهواء، وسرعة انتشار الأمراض. أما النوافذ المفتوحة فبها يتجدد الهواء، وتتجدد معه الحياة والنشاط.

إن أخطر ما نعانيه في هذه المرحلة من تاريخنا أن الأنظمة الحاكمة تعتبر الكلمة الحرة مؤامرة عليها، وتعتبر الكتاب الحر بضاعة ممنوعة، وكأنها قنبلة يخشى أن تنفجر، أو رصاصة يخشى أن تنطلق.

لقد دخلنا جحر الغرب فلدغتنا عقرب الليبرالية، ثم دخلنا مرة أخرى فنهشتنا أفعى الاشتراكية. ولو كنا مؤمنين حقا ما لدغنا من جحر مرتين.

ولكن الشيخ يرى بوادر الأمل وبزوغ نجمه وميلاد فجره قادما فيقول: بيد أني أحس أن عهدا جديدا يوشك أن يبزغ فجره على شعوبنا بعد أن تكشف لها عوار الاتجاهات المستوردة يمينها وشمالها، غربيها وشرقيها. وبعد أن تبينت جناية هذه الاتجاهات على شخصيتها وعجزها عن حل مشكلاتها، وإفلاسها في تحقيق آمالها، وإثبات ذاتها.