د. يوسف القرضاوي

أهذا ملخص قصة الحياة والإنسان؟ أرحام تدفع وأرض تبلع ولا شيء بعد هذا؟ أو كما عبر القرآن عن قوم: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ  ) (المؤمنون: 37).

إذن فما سر هذا الشعور الخفي، والوجدان الكامن الذي يغمر فطرة الإنسان من قديم الزمن بأنه لم يخلق لمجرد هذه الحياة، ولتلك المدة القصيرة؟ ما سر هذا الشعور بأن الإنسان في هذه الدنيا غريب أو عابر سبيل وأنه ضيف يوشك أن يرتحل إلى دار إقامة؟

هذا الشعور الذي رأيناه عند قدماء المصريين فحنطوا -استجابة له- جثث الموتى، وبنوا الأهرام، والذي ظهرت آثاره في أمم شتى بأساليب مختلفة.

يقول الشيخ محمد عبده: "اتفقت كلمة البشر موحدين ووثنيين، نبيين وفلاسفة -إلا قليلا لا يقام لهم وزن- على أن لنفس الإنسان بقاء تحيا به بعد مفارقة البدن، وأنها لا تموت موت فناء -أي زوال مطلق- وإنما الموت المحتوم هو ضرب من البطون والخفاء، وإن اختلفت منازعهم في تصوير ذلك البقاء، وفيما تكون فيه، وتباينت مشاربهم في طرق الاستدلال عليه، فمن قائل بالتناسخ في أحياء البشر أو الحيوان على الدوام، ومن ذاهب إلى أن التناسخ ينتهي عندما تبلغ النفس أعلى مراتب الكمال، ومنهم من قال: أنها إذا فارقت الجسد عادت إلى تجردها عن المادة حافظة لما فيه لذتها أو ما به شقوتها. ومنهم من رأى أنها تتعلق بأجسام أثيرية ألطف من هذه الأجسام المرئية.

هذا الشعور العام بحياة بعد هذه الحياة والمنبعث في جميع الأنفس عالمها وجاهلها، وحشيها ومستأنسها، باديها وحاضرها، قديمها وحديثها، لا يمكن أن يعد ضلة عقلية، أو نزعة وهمية، وإنما هو من الإلهامات التي اختص بها هذا النوع. فكما ألهم الإنسان أن عقله وفكره هما عماد بقائه في هذه الحياة الدنيا -وإن شذ أناس منه أنكروا ذلك أو شكوا فيه- كذلك قد ألهمت العقول، وشعرت النفوس، أن هذا العمر القصير ليس هو منتهى ما للإنسان في الوجود، بل الإنسان ينـزع هذا الجسد، كما ينـزع الثوب عن البدن ثم يكون حياً باقياً في طور آخر، وإن لم يدرك كنهه.

ذلك الهام يكاد يزاحم البديهة في الجلاء، يشعر كل نفس أنها خلقت مستعدة لقبول معلومات غير متناسية من طريق غير محصورة، شيقة إلى لذات غير محدودة، ولا واقفة عند غاية، مهيأة لدرجات من الكمال لا تحدها أطراف المراتب والغايات".

ثم كيف يسيغ العقل أن ينفض سوق هذه الحياة وقد نهب فيها من نهب وسرق فيها من سرق، وقتل فيها من قتل. وبغى فيها من بغى، وتجبر من تجبر، ولم يأخذ أحد من هؤلاء عقابه، بل تستر واختفى فأفلت ونجا .. أو تمكن من إخضاع الناس له بسيف القهر والجبروت؟

وفي الجانب الآخر: كم أحسن قوم، وضحوا وجاهدوا ولم ينالوا جزاء ما قدموا، إما لأنهم كانوا جنوداً مجهولين، أو لأن الحسد والحقد جعل الناس يتنكرون لهم بدل أن يعرفوا فضلهم، أو لأن الموت عاجلهم قبل أن ينعموا بثمرة ما عملوا من خير. وكم من قوم دعوا إلى الحق، واستمسكوا به، ودافعوا عنه، فوقف الظالمون في طريقهم، وأوذوا وعذبوا واضطهدوا وشردوا، وسقطوا صرعى في سبيله. وأعداؤهم الطغاة في أمن وعافية بل في ترف ونعيم.

ألا يسيغ العقل -الذي يؤمن بعدالة الإله الواحد- بل يطلب، أن توجد دار أخرى يجزى فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته؟ هذا ما تنطق به الحكمة السارية في كل ذرة في السموات والأرض: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) (الدخان: 38 - 40) (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (سورة ص: 27، 28).

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (الجاثية: 21، 22).

(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (النجم: 31).

أما بعث الأحياء بعد الموت فليس بعزيز على من خلقهم أول مرة: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم: 27).

بهذا الخلق الأول يستدل القرآن على إمكان البعث، كما يستدل عليه بمظاهر قدرة الله في عالم النبات: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ) (الحج: 5 - 7) ويستدل القرآن على إمكان البعث بخلق الأجرام العظيمة في هذا الكون من السموات والأرض، وهي -لمن تأمل- أكبر من خلق الناس وأعظم: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (يس: 81) (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الأحقاف: 33).

وبعد بعث الناس من قبورهم يكون الحساب الدقيق، والميزان العادل: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (غافر: 17) (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء: 47) وهناك ينقسم العباد إلى شقي وسعيد، (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود: 106 - 108).

والجنة دار هيأها الله لمثوبة الصالحين من عباده، وأعد فيها من النعيم الروحي والمادي ما عبر الله عنه في الحديث القدسي "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" وأقرأوا إن شئتم قوله تعالى: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة: 17).

إن الحياة في هذه الدار هي الحياة الحقة، وإن نعيمها هو النعيم الذي يقصر الخيال البشري عن وصفه. إنه ليس نعيماً روحياً خالصاً، ولا نعيماً مادياً صرفاً، وإنما هو مزيج من الأمرين، ذلك أن الإنسان نفسه ليس روحاً مجردة، ولا مادة بحتاً، إنما هو مركب منهما، والإنسان في الآخرة امتداد لإنسان الدنيا، وإن اختلف الكيف والتفصيل، فلا عجب أن يكون في الجنة فاكهة ولحم وطيور وحور عين (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ) (التوبة: 72).

والنار دار أعدها الله لعقوبة الفجار من الخلق. وهي تجمع العقوبتين المادية والروحية معاً.. فهناك العذاب الحسي (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ) (النساء: 56) وهناك العذاب النفسي الذي يتمثل في الهوان والخزي كقوله تعالى لهم: (اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) (المؤمنون: 108).

ــــــــ

- من كتاب "الإيمان والحياة" لفضيلة الشيخ.