الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأزكى صلواته وتسليماته على خاتم رسله، الذي أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(أما بعد)
فقد عرفت شيخنا الإمام محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ أول ما عرفته قارئا لمقالاته، التي كان يدبجها قلمه البليغ في مجلة (الإخوان المسلمون) الأسبوعية، ثم لكتابيه اللذين صدرا قبل محنة الإخوان في ديسمبر 1948م، وهما:(الإسلام والأوضاع الاقتصادية) و(الإسلام والمناهج الاشتراكية).
عرفت فيما سطره الشيخ لونًا جديدًا من الكتابة يجمع بين الدين والأدب، وبين العقل المتفتح والقلب المؤمن، وبين الفكر الثائر على الباطل والإيمان المستمسك بالحق، كان الشيخ في ذلك الوقت في العشرينيات من عمره، ولكن كان قلبه يمثل توقد الشباب، وعقله ينضح بحكمة الشيوخ.
ثم قدر الله لي ـ وكان هذا من فضل الله عليّ ـ أن ألتقي بالشيخ في معتقل الطور، وأنا طالب في السنة الخامسة الثانوية بالمعهد الديني، وقد اختار المعتقلون الشيخ الغزالي قائدا لهم، ليتحدث باسمهم، ويقود سفينتهم، فقد تعلموا من سنة نبيهم "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم"(1).
كان المعتقل مقسما إلى حذاءات، وكل حذاء مقسم إلى عدد من العنابر، وكل حذاء له إمامه، الذي يؤم المعتقلين في الصلوات الخمس، ويخطبهم في الجمعة، ويلقي عليهم العظات بين الحين والحين، وكنا في الحذاء رقم (2) وكان إمامنا وخطيبنا فيه الشيخ الغزالي، فكان من حسن حظي أن أستمع في كل جمعة إلى خطبة الشيخ الغزالي، وإلى دروسه وعظاته في أوقات متناثرة، وخصوصا بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر.
كنت أترقب يوم الجمعة ترقب الحبيب للقاء حبيبه، لأستمتع بخطبة الشيخ، فما كانت خطبته إلا قطعة أدبية رائعة، كأنها سبيكة من الذهب الخالص، صاغتها يد صائغ ماهر، فجعلت منها تحفة فنية، ألفاظ منتقاة، وجمل متناسقة، وعبارات ليس فيها وعورة المتقعرين، ولا ابتذال المسفين، واستعارات وتشبيهات، تجعل المعقول كأنه محسوس، والغريب كأنه مألوف مأنوس.واستحضار للقرآن الكريم، كأنه مائدة مصفوفة بين يديه، يأخذ منها ما يشاء، وقلب يفيض خشوعا وخشية من فرط حبه لله، وخوفه من الله، وتعظيمه لرسول الله، وروح علوي يحلق بك في آفاق السماء، مع الملائكة الأطهار، ونَفَس ثورى يؤجج فيك شعلة الحماس للحق الذي يدعو إليه، وللرسالة التي يريد تبليغها.
لازلت أذكر أول خطبة جمعة سمعتها من الشيخ الغزالي في معتقل الطور، وهو يتحدث عن (الفرعونية) الحاكمة بأمرها في البلاد، و(القارونية) الكانزة لمال الله عن العباد، و(الهامانية) المتوسطة بينهما في مساندة الطغيان والفساد {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}[غافر23-26].
وهكذا يظهر فرعون الطاغية المتأله المتجبر في صورة المشفق على الشعب وعلى مصالحه، الخائف عليه من موسى، أن يبدل دينه ويظهر في الأرض الفساد.
على حين يقول فرعون لقومه عن نفسه:{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}[غافر:29].
فيا عجبا! موسى يبدد الدين ويظهر في الأرض الفساد، وفرعون يرى السداد، ويهدي سبيل الرشاد.
وكذلك كانت خطب الشيخ كلها: تثقيفا وتنويرا وتوعية وتفقيها في الدين و "من يرد لله به خيرا يفقهه في الدين"(2).
وعلى هذا النهج، وبهذه الروح، استمرت خطب الشيخ بعد أن ازداد فكره نضجا، وعلمه اتساعا، وبصره بالدين والحياة قوة ومضاء، وبعد أن علا صيته، وغدا لسان الدعوة الإسلامية الناطق، وعلمها الخافق، وممثلها الصادق، في مشارق الأرض ومغاربها.
كان الناس يهرعون ـ أُلوفاً أُلوفاً ـ إلى المسجد الذي يخطب فيه ليتعلموا منه، ويأخذوا عنه، ويستقوا من ينابيعه الصافية، ويعرفوا من حقائق الإسلام: عقائد تلائم الفطرة، وعبادات تزكي الأنفس، وأخلاقا تحيي الضمائر، ومعاملات تحقق العدل، وآدابا تجمل الحياة، وشرائع ترقي بالمجتمع.
كان يخطب في جامع الزمالك بالقاهرة، ثم انتقل إلى الجامع الأزهر، ثم منع من الخطابة، حتى رأى وزير الأوقاف الشيخ عبد الحليم محمود سيدنا عمرو بن العاص في رؤيا، كأنما يشكو إليه من هجران مسجده.فأراد الشيخ أن يحيي المسجد بتكليف الشيخ الغزالي أن يخطب فيه.فإذا المسجد المهجور يعمر ويحيا ويمتلئ بالمصلين القادمين إليه من كل حدب وصوب، من أبناء مصر المسلمة الوفيه لدينها، المعتزة بربها وقرآنها ورسولها.
كانت خطب الشيخ الغزالي موصولة بالحياة، بواقع الناس، بهموم الأمة، بقضايا الإسلام الحية، كانت تمثل وعي العقل المؤمن، ونبض القلب الحي، وحس المسلم المعاصر، بما تدور به رحى الحياة من أحداث، وما يمور به العالم من تيارات، وما يحيق بالمسلمين من مصائب.
وكانت خطب الشيخ تسجل في أشرطة وتعمم في أنحاء مصر، بل خارج مصر، وكان الناس يتجاوبون معها من الإسكندرية إلى أسوان، حتى قال بعض كبار الصحفيين عن هذه الخطب: إنها أوسع الصحف انتشارا.
لقد أنشأ الشيخ بخطبه (مدرسة) إسلامية متميزة، لها منهجها، و لها تميزها، ولها مذاقها، ولها تلاميذها، بعضهم مباشرون، يشهدون الجمعة، ويتلقون من الشيخ شفاها، وبعضهم يتتلمذون عن طريق الأشرطة، التي هيأها العلم للناس في هذا العصر، فأصبحت من وسائل الدعوة إلى الإسلام، وإن كان بعضهم اتخذها وسيلة لإشاعة الخلاعة والفساد.
مدرسة الشيخ الغزالي تقوم على مخاطبة العقل والقلب، ومزج الدين بالدنيا، وربط الدعوة بالواقع، وجعل الغاية رضوان الله تبارك تعالى.
وكم كنت أتمنى أن تفرغ خطب الشيخ لتنشر مكتوبة، كما ألقيت مسموعة، فينتفع الناس بها إلى آفاق العالم الإسلامي، وفي الجاليات والأقليات الإسلامية، حتى وفق الله أخانا الحبيب الداعية الموفق، والعالم النابه، والخطيب الناجح، الدكتور قطب عبد الحميد قطب إلى تحقيق هذا الحلم، وإخراجه إلى حيز التنفيذ، بتشجيع وتأييد من الأسرة المباركة:آل عاشور، حفظ الله أحياءهم، ورحم أمواتهم.
بهذا أمست خطب الغزالي تراثا مكتوبا، يقرأه من يحب أن يقرأه وينهل منه، ولا ريب أن قارئ خطب الغزالي سيجد فيها علما نافعا، وفكرا مضيئا، وأدبا رفيعا، وإيمانا دافقا، وتفسيرا ناصعا للقرآن، وفقها عميقا للسنة، وقراءة مبصرة للتراث، واستفادة نيرة بالتاريخ، وفهما متوازنا للواقع.وقبل ذلك كله يحس القارئ ذو القلب الحي أن هذه الخطب ليست مجرد شقشقة لسان، بل هي خفقات قلب يذوب إخلاصا لله، وحبا لرسول الله، وشفقة على عباد الله، وغيرة على دين الله.
ولقد رجعت إلى ما كتبته عن خطب الشيخ في كتابي (الشيخ الغزالي كما عرفته ـ رحلة نصف قرن) فوجدت فيه كلمات يحسن بي أن أسجلها في هذا السياق. قلت عن خطبه: إن خطبه دائما تخدم موضوعا علميا محددا، يوضح معالمه وعناصره، ويستدل له من القرآن الكريم الذي يستحضر آياته في كل موضوع كأنها مصنفة بين يديه، ومن السنة المطهرة، التي قرأ الكثير منها فأحسن قراءته، والفهم له، والاحتجاج به. وربما استدل بالضعيف منها ـ في بعض الأحيان ـ أخذا برأي جمهور العلماء في الاستدلال بالضعيف في الترغيب والترغيب وفضائل الأعمال.
وهي دائما مرتبطة بالواقع، تقوم عوجه، وتعالج أمراضه، وتسدد مسيرته، في ضوء تعاليم الإسلام.
والشيخ داعية وناقد اجتماعي بصير، ينفذ ببصيرته إلى ما وراء الظواهر والأعراض، ليكشف عن حقائق العلل والأمراض، ولا يغره الزيف ولا التهويل، الذي يغطي العيوب بتمويهات لا تخفى على اللبيب، كما لا تخفى حقيقة الداء على الطبيب.
وهو في خطبه معلِّم موجه، أكثر منه خطيبا محرضا.
وهو يخطب كما يكتب، عذوبة ورشاقة وأناقة، فخطبه كلها، قطع أدبية، لا تجد فيها حوشي الكلام، ولا سوقية، كما لا تجد فيها التقعر والإغراب، الذي يحوجك إلى المعاجم لتبحث عن معاني ما سمعت.
وقارئ هذه الخطب يجد فيها أثر الثقافة المتنوعة، والتمكن الأزهري، وأصالة الدراسة اللغوية والأدبية.
وهو متمكن من اللغة، واع لقواعد النحو والصرف، لا يلحن ولا يخطئ، كأنما يقرأ صحيفة مضبوطة بالشكل. وهو حريص على أن يكون أداؤه صحيحا مائة في المائة، ولا يسامح نفسه في زلة يسبق بها لسانه، وقد رأيته مرة تحمس في خطبة فسبقت إلى لسانه هفوة نحوية يسيرة، فأسف لذلك أسفا شديدا، وقال: هذا نتيجة الانفعال، وسأحاول ألا أكرر ذلك ما استطعت!
ويلحظ المهتم بالعربية أن الشيخ يراعي الدقائق النحوية التي يغفل عنها الكثيرون، مثل اجتماع الشرط والقسم، وتقديم القسم أو ما يدل عليه، فلا يقع فيما يقع فيه من لا يعرف القواعد، ويقرن الجواب بالفاء. كقول بعضهم: لئن فعلتم كذا فسيعاقبكم الله. والصواب: لئن فعلتم كذا ليعاقبنكم الله. وفي هذا يقول ابن مالك:
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم |
|
جواب ما أخرت، فهو ملتزم |
ولقد حدث الشيخ عن نفسه: أنه بعد تخرجه عين إماما وخطيبا بمسجد عزبان بالعتبة، وأنه بعد عدة أسابيع نفدت بضاعته ولم يجد ما يقوله للناس، فبدأ تكوين نفسه من جديد، يقرأ في علوم الدين، ومعارف الدنيا، في الكتب القديمة والكتب الحديثة، في مصادر الشرق وما ترجم عن الغرب، حتى أمكنه أن يرضى عن نفسه، وأن يجد عندها ما يستطيع أن يمنحه لغيره. فالشهادة ليست هي نهاية العلم، بل مفتاحه، والداعية يجب أن يظل قارئا ما عاش، فالقراءة هي حياته، والله تعالى يقول لرسوله:{ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه:114]. والسلف يقولون: لا يزال المرء عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه علم فقد جهل. ومن مأثوراتهم: اطلب العلم من المهد إلى اللحد.
وقد شدت خطب الغزالى جماهير المثقفين والشباب إليه، فكانوا يفدون إليه من أنحاء شتى مستمعين ومستفيدين، وخصوصا في المساجد التي كان يخطب فيها بانتظام، مثل مسجد الزمالك، وجامع الأزهر، وجامع عمرو بن العاص، الذي أحيته خطب الشيخ بعد أن كان شبه مهجور، وهو أول مسجد أسس للإسلام في إفريقيا.
أنشأت هذه الخطب مدرسة إسلامية في فهم الإسلام وإفهامه، وهي مدرسة تقدم الدين من ينابيعه الصافية، موثقا بالأدلة، خالصا من الزوائد والشوائب، يعيدا عن التحريف والتزييف، لا تسكت عن حق، ولا تتكلم بباطل، ولا تبيع دينا بدنيا، ولكنها لا تعرض لأشخاص بأسمائهم على المنبر، ولا تعتمد الإثارة والتهييج في الموضوعات الحساسة، بل تعالج أدق القضايا بمبضع الجراح، متبعا ما أمر الدين به من الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ومستأنسا بما قاله السلف: من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف.
وبالرغم من أن الغزالي الخطيب كان هو المسؤول عن الدعوة وشؤون المساجد في وزارة الأوقاف المصرية، نراه يقول الحق، وإن كان مرا، لا يخشى في الله لومة لائم، وهذا ما أزعج السلطات، التي تتوجس من هذا النوع من الخطب التي تنير العقول بالحقائق، قبل أن تثير المشاعر بالمبالغات.
وانتهى الأمر بمنع الشيخ من الخطابة بمسجد عمرو بن العاص(3).
هذا الجزء السادس:
وإنه ليسرني أن أكتب هذا التقديم للجزء السادس من خطب الشيخ التي يعدها ويعلق حواشيها أخونا الدكتور قطب، فقد أصدر خمسة أجزاء من خطب شيخنا، وكأنه توقف أو تكاسل.
فلما سعدت بلقائه في سنة 1999م، استحثثته على أن يكمل المسيرة التي بدأها، ويقدم هذا الزاد العقلي والإيماني للأمة في وقت هي أفقر ما تكون إليها.
ولم يكن غريبا أن يستجيب (ابننا النجيب وأخونا الحبيب) للرجاء، متمما الشوط، ومخرجا هذا الجزء السادس الذي أكتب له هذه المقدمة.
وأشهد، لقد قرأت بعض نماذج هذا الجزء، فكنت أشعر بنشوة يكاد يرقص لها قلبي طربا، واستشعرت شيخنا الغزالي حيا أمامي، يخرج هذه اللالئ المكنونة مما أفاء الله عليه من علم وإيمان.
انظر إلى هذه الخطبة التي ألقاها الشيخ بجامع عمرو بن العاص في 16 فبراير 1973م، وما أخذت من معان جديدة، وأفكار فريدة، ونظرات ثاقبة، وتقديم للإسلام المتكامل الذي تنهض به الأمة، وتحيا به المجتمعات. ووقفات تفسيرية رائعة للقرآن، لتفسيره لكلمة (التمكين في الأرض)، فهي لا تعني أي لون من الحياة أو أي نوع من العيش، بل تعني الحياة الراسخة. تعني:القدرة على استغلال قوى الأرض، واستثارة خيراتها، وإدراك قوانينها، والبصر بما أودع الله في جنباتها. ومن جهل أو عجز عن ذلك لم يدخل في عداد الذين قال الله فيهم: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ }[الأعراف:10].
ومثل ذلك كلمة (ذلول) في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا}[الملك:15] يقول الشيخ:إنك لا تصف الدابة بأنها (ذلول) إلا إذا كنت تستطيع ركوبها وتسييرها وتملك قيادها وتسخيرها، وتصرفها كيف شئت، وهي طوع أمرك، أما إذا جمحت بك، وصعب عليك قيادها، فلا تسمى ذلولا. والأرض إنما تكون ذلولا للأمم العالمة، التي عرفت أسرارها، واستكشفت قوى الله فيها، ونعم الله المبثوثة في ظواهرها وخوافيها، عندئذ تكون الأرض ذلولا.
ويتحدث الشيخ عن معاني التفكر، والتعقل، والتذكر، في آيات سورة النحل وما تدل عليه، وما توحي به، كما يتحدث عن فروض العين وفروض الكفاية، مثل فرض تعلم الكيمياء والفيزياء والفلك والطب والهندسة والتفوق فيها، على الأمة، وهو حديث ينبئ عن فقه وثيق، وفهم دقيق. وعن الحضارة الإسلامية، وكيف قامت على العلم والإيمان ومكارم الأخلاق، وكيف صانت الحريات والحرمات وحقوق الإنسان، وأنه عندما كان الملوك يتحكمون في مصير الأمم باسم الحق الإلهي، كان حاكم المسلمين في المدينة يقول للناس: إني وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني.
إن العرب قادوا الدنيا بعقل صنعته الآيات التي جعلت القرآن كتاب العقل، فهو ذكرى لأولي الألباب، وآيات لقوم يعقلون.
ويعجب الشيخ كيف تجد الشيوعية رؤوسا، أو تجد نفوسا في أوطاننا، لولا التخريب العقلي في مناهج الدراسة على امتداد مراحلها.
وفي خطبة الشيخ الثانية تحدث عن دور علماء الأزهر التاريخي، أيام المماليك، وأيام الثورة الفرنسية، وكيف قادوا الشعب، وقادوا المقاومة، وقتل منهم من قتل حول القلعة وكيف وقفوا مع ثورة عرابي ضد الإنجليز وضد الخديوي نفسه.
وهكذا كل خطب الشيخ، التأمل فيها، والعيش معها متعة للذهن، وسياحة للعقل، وسعادة للروح، وحياة لليقين، ومعايشة للواقع، ومعالجة لمشكلاته في ضوء الإسلام، الذي هو مبدأ الشيخ ومنتهاه، وسره ونجواه.
رحم الله الشيخ الإمام محمد الغزالي، وغفر له، وجزاه عن دينه وأمته خير ما يجزي به الأئمة الربانيين، وشكر الله لأخينا وحبيبنا الشيخ قطب عبد الحميد ما قام ويقوم به من إحياء هذا التراث، وتقريبه للناس، في هذه الصورة المشرقة الجنبات، الحافلة بالتعليقات. وأدعو الله أن يمده بعونه وتوفيقه حتى يخرج كل ما للشيخ من خطب ومحاضرات، تضئ السبيل للمسلمين، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الفقير إلى عفو ربه
يوسف القرضاوي
---------------------------
(1) - رواه أبو داود في الجهاد (2608) عن أبي سعيد الخدري، وقال الألباني: حسن صحيح.
(2)- متفق عليه: رواه البخاري في العلم (71) ومسلم في الزكاة (1037)، وأحمد في المسند(16837) عن معاوية.
(3) الشيخ الغزالي كما عرفته ص 58-60