معتز الخطيب
في سنة 1977م، سأل عبدُ المنعم أبو الفتوح (رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة) الرئيسَ أنور السادات: لماذا يُفسح المجال للمدّاحين والمنافقين وتُغلق الأبواب في وجوه العلماء والدعاة الصادقين والمعتدلين كالشيخ محمد الغزالي الذي اضطر لمغادرة البلاد بعد التضييق عليه؟ فغضب السادات غضبًا شديدًا وردّ بحنق قائلاً: "هذا داعية فتنة، ومثير للنعرة الطائفية البغيضة"!.
فما كان من الشيخ القرضاوي في تلك السنة، وقد دُعي إلى المؤتمر العالمي الأول لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة في المدينة المنورة، واحتشد له نحو ثلاث مئة عالم وداعية، إلا أن صمم على الانتصار لشيخه دفعًا للباطل، وردًّا على الفرية، وانتصارًا للمظلوم، فلما جاء دور انتخاب مقرِّر للمؤتمر المذكور، قام الشيخ حسنين مخلوف مفتي مصر الأسبق ليقول: "أنا أرشح الداعية الإسلامي الكبير الشيخ يوسف القرضاوي ليكون مقررًا عامًّا للمؤتمر"، وكان القرضاوي يجلس بجوار المفكر الإسلامي د. محمد المبارك فقال له: "أنا سأرشح الشيخ الغزالي، وأرجو أن تثنّي عليّ لأسباب أنت تعرفها"، فوافقه على ذلك، فقام القرضاوي وقال: "أنا أعتز بثقة أستاذنا الكبير الشيخ حسنين مخلوف وأعدّ ترشيحه لي شهادة أفخر بها، ولكني متنازل لشيخنا الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي لأسباب لا تخفي عليكم". فقام المبارك وقال: "وأنا أثني على هذا الترشيح".
كان ذلك حدثًا تاريخيًّا دُعي "يوم الإيثار"، يوم الإنصاف والوقوف بوجه النيل من عَلَمٍ كبير بوزن الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، فكان الرد بليغًا على من اتهموه بالفتنة.
هذا ما تذكرته وأنا أتابع - باهتمام كبير - ردود الفعل على تصريحات شيخنا العلامة د. يوسف القرضاوي مرشد الأمة الإسلامية، وما أشبه اليوم بالبارحة في ادعاء أن القرضاوي داعية فتنة!، بعد تاريخ طويل حافل بالعطاء وجهود التوحيد ولمّ الشمل، بل ومع صاحب فلسفة في التأليف ورص الصفوف، وصاحب صولات وجولات في وجه كل ما يؤدي إلى بلورة مفهوم "الأمة" ويحافظ عليها حتى تكون حقيقةً لا وهمًا!. بل إنه ليَصدق فيه القول: إن الأمة سكنتْه فسكنَها!.
إلا أن اليوم لم يكن ليشبه البارحة من حيث إن قرضاويّ الغزالي بالأمس، لا يكاد يوجد اليوم بيننا، بل على العكس وُجد من يُعين على غزاليّ اليوم، إما صراحةً بالتصريح والكتابة، أو بالصمت والتواطؤ!.
ولقد كتب الكثيرون في الموضوع، إلا أن ما أردت التنبيه إليه تلك العبرة التي تحتاج منا إلى وقفة مع الذات للمراجعة والتأمل فيما جرى، وكيف يمكن رأب الصدع الذي وقع، خاصة بعد كل ما أثير من إشاعات عن أن القرضاوي بقي وحيدًا، وأن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يكاد ينفرط عقده، وأن أ.د. محمد سليم العوا يقود تحركًا ضده، وغير ذلك. ومما زاد في الصدع كذلك أن ينهض أ. مكرم محمد أحمد لينتصر للشيخ القرضاوي في حين أن أ. الكبير فهمي هويدي يكتب مخطِّئًا له على قربه منه، وصلته به، بل إن القرضاوي نفسه يذكر في مقدمة الجزء الثالث من مذكراته أنه استشار المستشار طارق البشري والعوا وهويدي في كتابه، وأبدوا آراءهم، فماذا كان لو حدث التواصل بين الطرفين بشكل مباشر لا عبر صفحات الجرائد؟. أدرك جيدًا أن الجميع متفق وحريص على وحدة الأمة، ولكن الأنظار مختلفة في كيفية تحقيق ذلك، وتبقى مسألة اجتهادية، ولكن العوا وهويدي وهما يحاولان لملمة الأمر ساهما في إذكائه!.
إن ما يُحسب لمكرم محمد أحمد أنه وضع موقف القرضاوي في سياقه التاريخي وكيف تعاطت معه إيران فبدت الصورة لديه مكتملة، على حين أن هويدي بدا الأمر لديه دفاعًا عن إيران على طول الخط، وكأن تصريحات القرضاوي منبتة عن سياق طويل ومحاولات كثيرة يعرفها أ. فهمي والكثيرون كانت تحاول رأب الصدع وتهدئة الأمور حرصًا على الأمة الواحدة، ولكن دون جدوى، وما كان لقاء القرضاوي ورفسنجاني إلا المظهر الأبرز لتلك الجهود الحثيثة، ولكنه كان لقاءًا محبِطًا للغاية، لم يلتزم فيه رفسنجاني بما تم الاتفاق عليه في كواليس الإعداد للقاء، كما يعرف ذلك المقربون ولا داعي للدخول في التفاصيل.
ويبدو أن الكثيرين توقفوا عند التصريح الأخير للشيخ القرضاوي ونسوا ما جرى في مؤتمر التقريب في قطر 2007م الذي دعا القرضاوي في جلسته الافتتاحية (السبت 19-1-2007)، إلى وقف محاولات تشييع السنة، واتهم الجانب الشيعي بعدم السعي للقيام بمبادرة للتقريب مع الجانب السني، فراح التسخيري (الأمين العام لمجمع التقريب في إيران) في الجلسة نفسها يطالب السُّنة بـ "وقف عمليات التبشير السني"، كما طالب السنة بالتوقف عن وصف الشيعة في إيران بـ"الصفويين" أو "القرامطة الجدد" أو "تكفيرهم، وأن يكون القتل على الهوية"، واصفا إيران بأنها "عدو وهمي" للسنة!.
يبدو أن ثمة شعورًا قويًّا لدى الكثير من أهل السنة أن التقريب المطلوب هو من جانب السنة فقط، فعلى سبيل المثال، كلما تحدث أحد من علماء الشيعة عن التقريب يذهب ويستشهد أو يستقوي بفتوى الشيخ شلتوت بجواز التعبد بالمذهب الجعفري وعدِّه مذهبًا خامسًا يضاف إلى مذاهب السنة الأربعة، لكن لا أحد يقول لنا: بماذا أفتى الشيعة بالمقابل؟ وحين سألتُ السيد محمد حسين فضل الله (خلال برنامج الشريعة والحياة بتاريخ 18-11-2007) هل يجوز التعبد بالمذهب السني عند الشيعة؟ لم يُجب وراح يتحدث عن المشترك بين السنة والشيعة، وعن الاجتهاد الفقهي، وعن الخطوط الاجتهادية، ولم يتجرأ على إصدار فتوى مقابلة، بالرغم من أنه سُئل هذا السؤال ثلاث مرات في تلك الحلقة نفسها، وفي كل مرة كان يتكلم في العموميات!.
لم يقل أحد في كل هذه المرات إن هذه الانفعالية والحدة في التعاطي مع الموضوع من التسخيري، وهذه الضبابية في إجابة السيد فضل الله، هي طائفية أو لون منها!. ولقد جلست أتأمل في الآونة الأخيرة كيف يكون المرء طائفيًّا؟ ومتى يكون؟ ثم ما معنى أن تكون طائفيًّا؟ هل هو الانتماء؟ هل هو الدفاع عن مصالح الطائفة؟ هل هو التحزب لها والحدة والثورة العارمة في وجه كل ما قد يُشمّ منه رائحة نقد لها؟ أليس هذا واقعًا وملموسًا في ردود الفعل على تصريحات القرضاوي؟
كم كان سيختلف الموقف لو أن إجابات فضل الله والتسخيري كانت على الشكل التالي: لا نعلم بوجود هذا، وسندرس الأمر، أو هناك مبالغات في هذه الأرقام، ولكننا نرفض المبدأ وندينه!. لكن الذي حدث هو أن رفسنجاني في اللقاء التلفزيوني الشهير دافع عن فكرة التبشير المذهبي قائلاً: وهل نمنع الناس من فعل الخير؟، ونحو هذا فعله التسخيري حين قال إنه "تبليغ" وليس "تبشيرًا"، والفرق واضح.
كنت وما زلت أؤمن بالحرية الدينية، وهذا ينطبق على التبشير المذهبي والتبشير الديني، لكن على أن يتم بحرية فعلاً، بأن يكون تحت الشمس، وفي ظروف موضوعية نزيهة وليس بين الجياع والمقهورين، وأن يتم على كلمة السواء بأن يكون حقًّا متبادلاً ففي حين يسعى البعض إلى التبشير في مصر، يجب أن يسعى آخرون إلى التبشير في إيران نفسها وهكذا، والأهم من كل ذلك أننا في الوقت الذي نسمح فيه بالحرية الدينية نسمح كذلك بحرية النقد والرد والدفاع، فعلامَ هذا اللغط كله؟ الجماعة يبشرون بمذهبهم وقام القرضاوي ينقدهم. وكلاهما يمارس حريته!. فأين الطائفية إذن؟ ثم لو جاء أحدٌ وأعاد نشر كتب علم الكلام القديمة ككتاب "الفِصَل في الملل والنحل" لابن حزم الأندلسي، أو "الفَرْق بين الفِرَق" للبغدادي، أو "الملل والنِّحَل" للشهرستاني، هل سيُتهم بالطائفية؟
على أننا من المهم كذلك أن نشير إلى أن القوانين تختلف في حالة الضعف السياسي والاجتماعي، كما هو حال أهل السنة والجماعة اليوم، ومن حق الجماعة في هذه الأحوال الاستثنائية أن تحمي وجودها من أي خطر محتوم أو حتى موهوم!. هكذا قوانين الجماعات في التاريخ القديم والحديث فعلام الشقاق؟!.
أمر آخر كذلك، وهو أن الأجواء في الفضاء السنيّ خبت وخفتت فيها السجالات العقدية والكلامية منذ زمن طويل، لأن أهل السنة على الدوام كانوا يرون – بحق – أنهم حاضنة الإسلام وأنهم الأصل الذي انشق عنه كل الفرق الإسلامية، ولهذا سُموا "أهل السنة والجماعة"، فالسنة هي السنة النبوية، والجماعة هي الجماعة السياسية وهي جماعة الأمة، وعليه فلم يعودوا ينشغلون بتكوين العقليات السجالية مع أصحاب الفرق الأخرى، لأنهم الأمة وليسوا الطائفة، ولأنهم كذلك يحرصون على الوحدة.
إن كثيرًا من الردود التي قيلت بخصوص تصريحات الشيخ القرضاوي تحتكم إلى منطق واحد، وهو أن التوقيت غير مناسب!. وهذا منطق سياسي بامتياز، فأين أضحت الطائفية إذن؟ ثم ما هو التوقيت المناسب؟ لعلهم نسوا أن القرضاوي في حرب تموز 2006م وقف بشدة ووضوح في وجه الفتوى القائلة بأن حزب الله شيعي ولا يجوز مساندته، لأنه كان يعي بوضوح أمرين: التوقيت وهو منطق سياسي، والأمر الأهم أنه كان يعي بوضوح أن هذا مبدأ شرعي لا تتم المساومة فيه، وهو الفصل بين فكرة الطائفية والمقاومة. وهو ما كان شديد الوضوح كذلك في التصريح الأخير، إذ إنه ينتقد التشييع، وفي الوقت نفسه يدعم حق إيران في النووي، ويقرّ بواجب الأمة (الشرعي) في الدفاع عنها ضد أي هجوم أمريكي محتمل.
ثم إن واجب الدفاع عن وحدة الأمة، واجب على الجميع، واجب على الذي يسعون لنشر مذهبهم هنا وهناك، وواجب على الآخرين كذلك. فينبغي أن لا تتحول وحدة الأمة إلى مصدر ابتزاز لهذا الفريق أو ذاك.
أمر أخير أختم به، وهو أن هذه الحساسية المفرطة في التعاطي مع موضوع "الشيعة" وأي نقد لهم، خوفًا من أن يكون لونًا من الطائفية هو نفسه طائفية بغيضة، وأخشى ما أخشاه أن تكون فكرة العصمة سكنت عقول الكثيرين تحت مسميات عديدة: التوقيت، الطائفية، وحدة الأمة. اللهم لا عصمة لأحد، فحتى الأنبياء يخطئون، وإن أخطؤوا في مسائل الوحي والتبليغ (وليس التشييع) فإن الوحي ينزل ويصحح لهم.
سبحانك اللهم إنا – جميعًا - بشرٌ ممن خلقتَ.
......
- عن صحيفة المصريون.