عدة فلاحي
بعد المشوار الطويل والشاق الذي قطعه الشيخ يوسف القرضاوي في خدمة الإسلام والمسلمين والعلم ، لم يعد محل اتهام وهدفا للنقد والتجريح من الإدارة الأمريكية والصهيونية التي حملته مسؤولية إذكاء العنف وتشجيع الإرهاب عندما أفتى بجواز استخدام الجسد وسيلة للتفجير إذا كان ذلك ضروريا لمقاومة العدو المحتل، بل أضحى سماحته مستهدفا كذلك من بعض الجهات التي تنتمي إلى ملة الإسلام التي لم تعد تتورع في استخدام الأساليب الوقحة التي لا تليق بمقام العلماء حين مجادلتهم، فمنذ سنتين خلت تعرض سماحته لهجوم بذيء من طرف هيئة الإفتاء المغربية حيث جاء في بيانها المخجل: "أن الفتوى أصبح يتولاها كل من هب ودب، سيما وقد صار أمرها بيد متنطعين مغرورين أساء بعضهم استخدام العلم في غير ما ينفع الناس، واتخذه سلما لاعتلاء كرسي الرئاسة والزعامة العلمية، فأعطى لنفسه الحق في إصدار فتواه لأهل المغرب ونصب نفسه إماما عليهم، متجاهلا ما للمغرب من مؤسسات علمية وشيوخ وأعلام...".
فهل كان من الضروري استخدام هذه اللغة الحادة الخالية من كل أدب لمجرد أن الشيخ القرضاوي أفتى في رد ه على أحد الأسئلة الموجهة إليه من أحد المغاربة بجواز الفوائد المصرفية للمغاربة الذين يرغبون في الحصول على مسكن؟
ثم وبعدما تحرك ضد الموجة الهستيرية التي أساءت إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من خلال الرسوم الكاريكاتورية في الدانمرك وغيرها من دول أوروبا، وصف على أنه رجل لا يحترم حرية التعبير التي تكفلها الدساتير والقوانين الغربية ومع الأسف الشديد وجدنا من ردد هذه السمفونية حتى ممن يعتنقون ديننا ويحملون بطاقة هويتنا من أدعياء الحداثة والعصرنة الذين يسعون بكل ما أوتوا من فرصة للانتقاص من مراجعنا التي تحمل هموم الأمة لخلق القطيعة فيما بينها لغاية هم يدركونها جيدا وهو أنهم فشلوا في نسج علاقة تواصل فيما بينهم وبين الجماهير العريضة من أبناء الأمة التي لا تزكي إلا من ترافع من أجل قضاياها العادلة وعايش همومها، إن على المستوى الداخلي في مقاومة النظم المستبدة الفاسدة أو على المستوى الخارجي في التصدي لكل محاولة للهيمنة.
ربما أجد كل ما قيل في حق الشيخ يوسف هينا أمام الهجوم الوقح والحاد الذي تعرض له هذه الأيام من قبل خبير الشؤون الدولية لوكالة ' مهر' الإيرانية للأنباء حسن زاده الذي قال في شأنه متسائلا: 'هل بات الشيخ القرضاوي يتحدث بهذه التصريحات المشينة نيابة عن الماسونية العالمية وحاخامات اليهود؟' ومن ' أنه بات يتحدث بلغة تتسم بالنفاق والدجل وتنبع من أفكار طائفية، وهو ما أفقده وزنه، بعد أن تفوه بمثل هذه الكلمات البذيئة ضد شيعة آل رسول الله، حتى أنه وصف المجرم المعدوم صدام بأنه شهيد الأمة..'.
فهذه الغارة المحمومة التي خرجت علينا في شهر رمضان المبارك شهر الرحمة والمحبة جاءت بعد الحوار الطويل الذي أجرته جريدة المصري اليوم مع الشيخ القرضاوي بتاريخ 08/09/2008 ، ففي إجابته عن السؤال الذي طرحته عليه الصحافية 'أيهما ترى أنه الاكثر خطورة: المد الوهابي أو المد الشيعي؟'، كان رده بعدما وصف الوهابيين بالتعصب لرأيهم بالتأسف لوجود مصريين شيعة و'..بأنهم اليوم متواجدون في الصحف وعلى الشاشات ويجهرون بتشيعهم وبأفكارهم.
وبان الشيعة يعملون مبدأ التقية وإظهار غير ما يبطن وهو ما يجب أن نحذر منه، وما يجب أن نقف ضده في هذه الفترة أن نحمي المجتمعات السنية من الغزو الشيعي، وأدعوا علماء السنة للتكاتف ومواجهة هذا الغزو لأني وجدت أن كل البلاد العربية هزمت من الشيعة: مصر، السودان، المغرب، الجزائر وغيرها فضلا عن ماليزيا واندونيسيا ونيجيريا'، وهنا لا بد بدورنا أن نتساءل ما الذي دعا الشيخ القرضاوي لأن يقول هذا الكلام وهو المعروف عنه بأنه فقيه الوسطية الاعتدال والتسامح والحوار حتى مع أصحاب الديانات الأخرى من أهل الكتاب فما بالك مع طائفة هي من أحد مذاهب الإسلام التي لا نختلف معها في الجوهر والكليات عدا لعنة الغلاة منهم الشيخان الجليلان أبوبكر وعمر والسيدة عائشة رضي الله عنهم أجمعين؟
فمما لا شك فيه أن سقوط العراق في يد المحتل الأمريكي بتواطؤ مع قيادات شيعية بالدرجة الأولى عراقية وإيرانية عمق الشرخ بين أتباع المذهب السني والشيعي وقد تعمق الشرخ أكثر لما تم إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين صباح يوم العيد الأضحى المبارك وبأيد شيعية انتقاما لما فعله بهم يوم كان حاكما على العراق، فرغم الأخطاء التي ارتكبها صدام والتي لم تكن مقبولة إلا أن إعدامه بتلك الطريقة المشينة التي شاهدها الجميع عبر الفضائيات خلقت ردود فعل مستنكرة في العالم العربي والسني لأن تلك الفعلة فسرت على أنها استفزاز لمشاعرهم ولانتمائهم المذهبي ، فكان الشيخ القرضاوي في مقدمة المرجعيات التي استنكرت ذلك وقال بكل صراحة ' إن هذا العمل غير مقبول وبذلك يكون صدام حسين هو الشخص الوحيد في التاريخ الذي يشهد له العالم أنه لقي ربه وهو ينطق بشهادة لا إله إلا الله وبأن محمدا رسول الله'، فهذه الشهادة بلا شك تغيض قوما حملوا ثأرا وحقدا قديما على صدام وبالتالي فكل من يقول كلمة خير في صدام تطاله لعنة الحقد هذه.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فبعد التحري والتدقيق توصل الشيخ القرضاوي إلى قناعة جهر بها وهي أن الطائفة الشيعية في العراق تقوم وبطريقة ممنهجة ومع سبق الإصرار والترصد وبدعم من إيران على ممارسة التطهير المذهبي ضد إخوانهم السنة في العراق وهذا مما وضع القرضاوي العدو رقم واحد في نظر ساسة الشيعة وبالخصوص ملالي إيران الذين أجهضوا مبادرته التي اعتزم القيام بها وهو ذاهب لطهران لوضع ميثاق صلح بين الطائفة السنية والشيعية في العراق بحجة أن الوفد الذي كان سيرافق الشيخ القرضاوي يضم في عضويته الشيخ راشد الغنوشي والنظام الإيراني لا يريد أن يخسر علاقته مع تونس ' العلمانية' الغاضبة على الغنوشي المنفي ببريطانيا، وعليه زاد هذا الموقف من سخط الشيخ القرضاوي وترسخت قناعته من أن سياسة إيران فعلا تتجه نحو الهيمنة على العالم العربي السني بل وعلى العالم الإسلامي ككل من جاكرتا إلى مراكش..
وعلى كل هذا لا يجب أن يدفع بالمتهورين دون وازع من دين أو خلق إلى اتهام القرضاوي بما لا يتناسب وسيرته النضالية، ومن أنه متعصب وهو الداعية إلى التقريب بين المذاهب والذي يعتقد كغيره من أبناء السنة أن آل البيت هم ميراث مشترك لجميع المسلمين وبمختلف مذاهبهم، وبالمناسبة لا داعي أن نذكَر بموقفه الإيجابي من المقاومة المسلحة في لبنان التي يتصدرها حزب الله وقبلها بعقود سبق وأن أيد الثورة الإيرانية التي أطاحت بالشاه وقد جاء في مذكراته معليا من شأن الإمام الخميني بالقول' لم يكن أعلم المرجعيات المعروفة، ولكن قيادة الثورات الشعبية لا تحتاج إلى العلم وحده، بل تحتاج إلى مجموعة من الصفات العقلية والنفسية والخلقية كانت متوافرة في الخميني الذي تصدى لمقاومة طغيان الشاه' ثم يضيف في موضع آخر بما يعزز هذا الانطباع ' ومما أيد الشعب وأنجح إرادته: أنه وجد القائد المناسب للمرحلة، الذي أجمعت عليه كل القوى الشعبية..'.
كما أنه تحدث في سياق آخر عن الإمام موسى الصدر بكثير من التقدير والاحترام الأمر الذي يدفع بنا إلى الاستنتاج أن ما يجمع العقلاء أكثر مما يفرقهم وعلى هذا فالواجب كل الواجب أن يتعاونوا على خدمة الأمة فيما اتفقوا عليه ويعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه وأول خطوة في هذا الاتجاه ألا يكفر بعضهم بعضا أو يحاول أحدهم أن يحل محل الآخر في قطر من الأقطار حتى لا يتفكك النسيج الاجتماعي والوقوف صفا واحدا في وجه الغلاة سواء كانوا شيعة أو سنة وهذا حتى لا يعطوا الفرصة لعدوهم المشترك الذي يريد أن يستثمر في نزاعاتهم ليسهل عليه أن يسلبهم الأرض والعرض، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
.......
- نقلا عن صحيفة القدس العربي.