أكد العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أن فكرة تعددية الأديان لا تتعارض مع النصوص الشرعية في الإسلام كقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19]. وقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
وقال: "هناك دين مقبول عند الله عز وجل وأديان غير مقبولة، كما أن الحقيقة لا تتعدد وإنما هي حقيقة واحدة وهو الإسلام الذي بعث الله تعالى به الأنبياء من لدن نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم".
واستدرك بقوله: "إلا أنه ليس معنى كون الإسلام هو الدين الحق هو عدم وجود أديان أخرى غير الإسلام؛ وذلك لأن القرآن الكريم يقول: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً}، فالآية أشارت إلى أن غير الإسلام ممكن أن يكون دينًا. وكقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، وهم وثنيون، وكقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} [المائدة: 77]، مؤكدًا أن الدين الآخر له حق العيش على الرغم من الاعتقاد ببطلانه.
جاء ذلك في سياق حلقة برنامج الشريعة والحياة الذي بثته قناة الجزيرة الأحد 17/2/2008 بعنوان (التعددية الدينية وقيم التسامح الإسلامي).
وأكد القرضاوي أن "القرآن الكريم أقر فكرة التعددية الدينية، واعتبرها بمشيئة الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى هو الذي شاء أن يكون البشر على هذه الوتيرة، ومشيئة الله عز وجل لا تنفصل عن حكمته سبحانه وتعالى؛ لأن المشيئة هي مقتضى الحكمة الإلهية".
واستدل بقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 ،119]، حيث أوضح أن كثيرًا من المفسرين يفسرونها بكثير من الاختلاف، فالبشر متغايرون في الفكر والإرادة فلا بد أن يتغاير موقفهم من الأديان، وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99].
التعددية والمساواة بين الأديان
وأوضح أن فكرة التعددية الدينية لا تعني أن جميع الأديان متساوية فعلاً؛ وذلك لاختلاف الأديان فهناك أديان سماوية وهناك أديان وضعية، والسماوية مختلفة كل منها عن الآخر، ولكن تجتمع كل تلك الأديان في حق واحد وهو حق الوجود والتعايش معًا.
واعتبار أن تسمية الآخر بالكافر انتقاص من قدره ومكانته ليس على إطلاقه؛ لأن كل دين يعتبر نفسه أنه على حق وغيره على باطل، وأنه هو المؤمن وما عداه الكافر، مشيرًا إلى أن كلمة الكفر لها عدة مفاهيم، فأحيانًا تعني كلمة الكلمة (الكفر بالله سبحانه وتعالى) بأن يكون الشخص ملحدًا جاحدًا لا يؤمن بالله ولا بالآخرة، وأحيانًا تعني كلمة كفر (كافر بديني) مثل اعتقاده بأن اليهودي والمسيحي كافر؛ لأنه لا يؤمن أن محمدًا رسول الله ولا أن القرآن هو كلام الله تعالى المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وشدّد على عدم جواز المجاملة في مسألة الكفر بالدين، إلا أنه نبّه على أنه لا يجوز وصف الآخر بالكافر وفقًا للمعنى الأول الذي أشار إليه وهو أنه ملحد أو جاحد، وذلك لأن هذا الآخر إذا كان مؤمنًا بالله ومؤمنًا بالآخرة ومؤمنًا بعبادة الله ومؤمنًا بالقيم الأخلاقية بصفة عامة فلا يوصف بالكفر وفقًا لهذا المعنى، وإنما يوصف بالكفر على أنه ليس مؤمن برسالتي كما أؤمن بها.
وأكد القرضاوي "أنه ليس معنى التعددية أن أعتقد أن جميع الأديان على حق، ولكن معنى التعددية هي الإقرار بحق الآخرين في العيش معي، وأن يجاوروني وأجاورهم والعمل معًا في خدمة البشر، مثل الوقوف ضد تيار الإلحاد وتيار الإباحية؛ وضد المظالم الاجتماعية؛ وضد العدوان على حقوق الإنسان؛ والوقوف مع الشعوب المستضعفة مثل الشعب الفلسطيني"، مشيرًا إلى أنه من حق أتباع كل دين أن يعتقدوا أن دينهم هو الأفضل، وإلا لماذا بقي الناس على هذا الدين إذا لم يعتقدوا أنه هو الأفضل.
وأشار إلى أن التعددية الدينية سنّة من سنن الكون، فالله سبحانه وتعالى خلق الكون مختلفًا ألوانه، أي أنه مختلف في أنواعه؛ وهي ظاهرة لا يمكن إنكار وجودها داخل المجتمعات، وتعجب من رفض الناس لتلك الفكرة.
وأوضح أن المجتمعات الغربية لكي تحيا فيها الأقليات والتي تمثل جزءًا كبيرًا من تلك المجتمعات، فمن حق تلك الأقليات أن تعيش وفقًا لتعاليم دينها.
وأشار إلى أن الحضارة الغربية تتجه إلى التعصب بدل التسامح وإلى التضييق بدل التوسعة وإلى النفور من الأديان والأجناس المختلفة، مؤكدًا أن المجتمعات الغربية بدأت تفقد الخاصية التي كانت تتباهى بها في الماضي.
واعتبر أن إعادة نشر الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، وردود الفعل العنيفة على تصريحات روان ويليامز كبير أساقفة كانتربري (الكنيسة الإنجليكانية البريطانية)، بالإضافة إلى قصة منعه من دخول بريطانيا تهدد فكرة التعددية الدينية في المجتمعات الغربية، ملفتًا النظر إلى أن الناس لو يؤمنون بفكرة التعددية الدينية كما يؤمن المسلمون بها لما ضاق الناس ذرعًا بمثل هذه الأمور.
ولفت إلى ظاهرة جديدة في الغرب بدأت في الظهور تريد أن تعامل المسلمين معاملة خاصة، وأن تجعل لهم قوانين وحدهم، مدللاً ببريطانيا التي كانت في الماضي تفخر بأنها بلد الجنسيات والعروق المختلفة والألوان المتعددة والديانات والمذاهب المختلفة، ثم حدثت انتكاسة لها في ذلك الجانب.
العلمانية بديل للتعددية الدينية
وفي إجابته عن العلمانية وكونها بديلاً لفكرة التعددية الدينية ذهب القرضاوي إلى أنه أحيانًا في بعض البلاد التي لا توجد فيه أغلبية ظاهرة، وتنتشر فيها التعددية الدينية لتعدد الأديان التي قد تصل إلى عشرة أديان تكون العلمانية هي الحل لمشاكل التعصب الديني من جانب كل طائفة ضد الأخرى.
ولفت إلى أن "حكم النظام العلماني في بعض البلاد التي لا توجد بها أغلبية دينية ظاهرة قد يكون أفضل من الحكم الديني المتعصب؛ لأنه يقسم السلطة والثروة ويتيح الفرص للجميع، وذلك كما في الهند التي يزيد تعداد سكانها عن المليار وفيها ديانات متعددة (هندوسية؛ الإسلام؛ السيخ؛ المسيحية؛ غير ذلك)، فإذا حكم الهندوس المتعصبون تكون البلد في عصبية".
ويضيف: "لذلك رأى العقلاء أنه لا حل إلا أن يحكم العلمانيون، ورحّب الجميع بحزب المؤتمر على الرغم من كونه حزبًا مدنيًّا علمانيًّا، وشارك المسلمون في تأسيسه، وكان من بين مؤسسيه رجال كبار من المسلمين كمولانا أبو الكلام أجادوا وغيره".
ويتابع القرضاوي: "أما في حالة بلد لا تتعدد فيه الأديان، بل توجد أغلبية دينية واضحة فمن حقها أن تتحاكم إلى دينها وإلى عقيدتها، خاصة إذا كانت أغلبية إسلامية؛ لأن دينها يأمرها بهذا وهذا على نقيض أغلبية دينية أخرى لا يأمرها دينها بهذا، وذلك كالنصرانية فليس فيها شريعة ملزمة، أما الإسلام ففيه شريعة ملزمة يجب أن يحتكم الجميع إليها وليس لأحد خيار أمام قطعية الشريعة".
ويشترط لتحكيم الشريعة الإسلامية في حالة الأغلبية المسلمة هو أن تحسن تلك الأغلبية فهم الشريعة، مشيرًا إلى أن مشكلة بعض الناس هو أنهم يحكمون أفكار عصور مضت لا تليق بمثل هذا الزمان، مشددًا على وجوب فتح باب الاجتهاد.
الأسس الفكرية للتسامح الإسلامي
وأوضح القرضاوي أن الإسلام عالج قضية التعصب ضد الآخرين من خلال غرز مجموعة من المبادئ والأسس التي تشيع جو التسامح بين المسلمين وغيرهم، رغم الاعتقاد بأن الإسلام وحده هو الذي يملك الحقيقة، وأنه وحده هداية للناس جميعًا يتمثل أهمها في:
أولاً: أن اختلاف الخلق واقع بمشيئة الله تعالى؛ مصداقًا لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99].
ثانيًا: ما دام الناس بهم مهتد وضال فإن الذي يحاسبهم هو الله سبحانه وتعالى، ودار الحساب هي دار الآخرة وليس الدنيا؛ مصداقًا لقوله تعالى: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج: 69].
ثالثًا: الإسلام يكرم الإنسان الآدمي، سواء أكان مسلمًا أو غير مسلم قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، والنبي صلى الله عليه وسلم مرّوا عليه بجنازة فوقف لها تكريمًا، فقالوا: يا رسول الله إنها جنازة يهودي، فقال: عليه الصلاة والسلام: "أليست نفسًا؟!".
رابعًا: أن الإسلام جاء بالعدل لكل البشر، حيث نزلت تسع آيات في سورة المائدة تدافع عن يهودي اتهم بالسرقة زورًا، قال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
وفي إجابته حول تعارض الإيمان بالتعددية الدينية مع حق المسلمين في دعوة غير المسلمين، أوضح أنه "لو قلنا إن التعددية الدينية تعني أن كل الأديان حق، وهذا غير صحيح فالتعددية الدينية تعني أني على حق وأن غيري على باطل، ولكن من حقهم أن يعيشوا ومن حقهم أن أتعاون معهم على البر والتقوى، ومن حقي أن أسالم من سالمني وأن أحارب من حاربني، ومن ثَم فما دمت أعتقد أن غيري على باطل فمن حقي أن أدعوه، بل من واجبي أن أدعوه لديني؛ مصداقًا لقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
وشدّد القرضاوي على أن إعادة نشر الرسوم المسيئة إلى النبي صلى الله عليه وسلم "تمثل إساءة بالغة للأمة واستهانة بها واستفزازًا لمشاعرها، فأي فائدة ثقافية أو فنية أو أدبية من إعادة نشر تلك الرسوم تكسبها الدنمارك أو أي بلد من نشر صور هي عبارة عن سباب وقذف وشتائم لأعظم شخصية إنسانية عرفت في تاريخ البشرية".
وعلى الرغم من تأكيده على أنه من حق الأمة في أن تغضب وأن تثور فإنه دعا الأمة إلى التزام الهدوء ومقابلة الأمر بعقلانية وحكمة، مطالبًا في الوقت ذاته بسرعة اتخاذ الوسائل السلمية والقانونية لمحاكمة هؤلاء والسعي إلى إصدار تشريعات تعالج مثل هذه الأعمال.
وأكد أن قضية حرية التعبير شيء وأن السبَّ والشتيمة شيء آخر فليس لأحد تحت اسم حرية التعبير أن يسب ويشتم الآخرين.
ودعا عقلاء أوروبا والعالم إلى النظر في هذا الأمر نظرة عقلانية حكيمة، محذرًا من مغبّة النتائج المترتبة على هذا الفعل الدنيء، مما يؤدي إلى مزيد من الصراع والدموية والعنف، مؤكدًا أن مثل تلك الأشياء هي التي تستثير العنف وتشجعه.