د. يوسف القرضاوي
احذروا الإسلام المعتدل!!
لا مراء في أن هذا التيار هو موطن الأمل، ومعقد الرجاء في الغد، وعليه أن يبذل جهوداً مكثفة في إبراز دعوته، وتربية أنصاره، وإقناع خصومه، والحوار مع معارضيه، والاجتهاد في الإفلات من الشباك التي تنصب له لإيقاعه في ما لا يريد ولا يحب.
ومما أصبح معلوماً الآن بالشواهد الوفيرة، أن القوى المعادية في الداخل والخارج تخاف هذا التيار أكثر من غيره، بل تكرهه وتكن له العداء أكثر من التيارات الأخرى.
فقد كانوا من قبل يحذرون من تيارات التشدد والعنف. أما اليوم فقد ظهرت نغمة جديدة تقول : احذروا الإسلام المعتدل، فهو أشد خطراً من غيره. إن التيارات الأخرى قصيرة العمر لن تدوم طويلاً. أما هذا فهو الذي يستمر ويدوم . واعتداله في زعمهم ليس مأموناً. إنه يبدأ معتدلاً ثم يتطرف، لأن التطرف كامن في الإسلام ذاته، كما يقولون.
من هنا بدأوا يخوفون من خطر الإسلام الزاحف ويسمونه الخطر الأخضر، ويجعلون منه عدواً جديداً، بدل (الخطر الأحمر) الذي زال بزوال الشيوعية من أوروبا كلها . وهو ما ردّ عليه المنصفون منهم، مؤكدين أن الخطر الإسلامي وهم لا حقيقة.
ولابد لتيار الوسطية أن يواجه هؤلاء ويكشف تزييفهم، ويحاور المعتدلين من قومهم. كما لابد من مواجهة آخرين من فروخهم وتلاميذهم في داخل دار الإسلام نفسها، وممن يحملون أسماء المسلمين، ولكنهم يعادون بكل قوة المشروع الحضاري للإسلام، ويقفون في صف أعداء الأمة ودينها. وهم الذين وصفهم الرسول الكريم في حديث حذيفة المتفق عليه بأنهم "دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها" قيل صفهم لنا يا رسول الله، قال "هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا" . لهذا كانت ضرورة مواجهة هؤلاء الذين يفسدون فكر الأمة، ويضللونها عن حقيقتها وعن أصالة هويتها، ويضعون لها السم الزعاف، في العسل الحلو، والدسم المشتهى مما يقرأ أو يسمع أو يشاهد فيعمل في عقول أبناء الأمة ما تعمل الأوبئة القتالة في الأجسام.
إن هؤلاء المستغربين من قومنا يحملون أفكار الاستعمار، بعد أن حمل الاستعمار عصاه ورحل عن ديار
معركتنا الحقيقية مع الغلاة
إن معركتنا الحقيقية في داخل أرضنا يجب أن تكون مع هؤلاء (الغلاة) حقاً، من العلمانيين وبقايا الماركسيين، الذين لبسوا اليوم لبوس الليبرالية الغربية، والذين جندوا أقلامهم وأسلحتهم كلها لشن الحرب على صحوة الإسلام، وانبعاثه الجديد وتشويه دعوته، والتشويش على دعاته، واختراع مصطلحات جديدة لتنفير الناس منه مثل (الإسلام السياسي) أو (الأصولية) والإيقاع بينهم وبين الأنظمة الحاكمة، لاستنزاف قوى البلاد في صراعات دامية لا تكاد تنتهي إلا لتبدأ من جديد في صورة أخرى وباسم آخر.
إن أي تحول للمعركة عن هذا المسار، ومحاولة اختراع أعداء من الإسلاميين أنفسهم ممن يخالفون بعض الناس في فروع الفقه، أو حتى في فروع العقيدة أو في أولويات العمل، أو في المواقف من القضايا الجزئية المختلفة، يعتبر غفلة شديدة عن حقيقة العدو الذي يتربص بالجميع الدوائر، ويريد أن يضرب بعضهم ببعض وهو يتفرج عليهم، ثم يضربهم جميعاً في النهاية الضربة القاصمة. فمن فعل ذلك من الدعاة إلى الإسلام عن جهل فهي مصيبة، لأن الجهل بمثل هذه القضية خطر كبير، ومن فعل ذلك عن علم وقصد فهي مصيبة أعظم وخطرها أكبر، لأنها تكون بمثابة الخيانة للإسلام وأمته وصحوته.
وأعتقد أن على تيار الوسطية واجباً كبيراً، يجب أن يسعى إليه ويحرص عليه ويجاهد من أجله، وهو العمل بصدق وإخلاص لتجميع الصف الإسلامي، صف العاملين للإسلام، على الأصول التي لا ينبغي الخلاف عليها، أي على أركان العقيدة الستة : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وعلى الأركان العملية الخمسة : الشهادتين وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت. وعلى أصول الفضائل وأمهات الأخلاق وعلى اجتناب أصول الرذائل والمحرمات، وبخاصة الكبائر والموبقات.
وقد ذكرت في أكثر من كتاب لي أنه لا مانع من أن تتعدد الجماعات العاملة للإسلام ما دام تعددها تعدد تنوع وتخصص، لا تعدد تضارب وتناقض، فتعدد التنوع يؤدي إلى مزيد من الإثراء والنماء، وتعدد التناقض إنما يؤدي إلى التآكل والفناء.
لابد من جهد يبذل لتجميع العاملين لخدمة الإسلام، ونصرة دعوته، وتحكيم شريعته، وتوحيد امته.
وفي رأيي أن هذا العمل من الأولويات المهمة والمقدمة في الساحة الإسلامية اليوم. وإذا لم ينتبه الإسلاميون لخطر التمزق الذي يعيشونه فسيؤكلون جميعاً، ستفترسهم المخالب والأنياب الحادة للقوى المعادية للإسلام وأمته، سيضربون تياراً بعد تيار، ومجموعة بعد مجموعة، حتى يقضى عليهم جميعاً.
وإذا كنا لا نملك اليوم القدرة على تجميع قوى أمتنا الكبرى من المحيط إلى المحيط، فلنجتهد على الأقل في تجميع قوى الفصائل الكبرى في الصحوة الإسلامية، القابلة للحوار والتفاهم، وذلك بإزالة النتوءات وتقليص التطرفات وتقريب المفاهيم وتنسيق المواقف، والوقوف صفاً واحداً في القضايا والتعاون والتجمع: فريضة دينية وضرورة حيوية، فإذا لم تجمعنا الفكرة الواحدة، فلتجمعنا المحنة المشتركة.
ومما وقع فيه الخلل هنا أن معظم العاملين في الحقل الإسلامي وبخاصة المتحمسون منهم أعطوا عناية كبرى لقضية ما سموه (تطبيق الشريعة الإسلامية)، يعنون الجانب القانوني من الشريعة، ولا سيما في العقوبات، أي الحدود والقصاص والتعازير. وهذا الجانب جزء من الإسلام ولا ريب، ولا يجوز إغفاله أو الإعراض عنه.
ولكن المبالغة في المطالبة به والحديث عنه، واعتباره رأس الأمر وعموده وذروة سنامه، كان له آثار سيئة على التفكير الإسلامي، والعمل الإسلامي، وآثار أخرى على أفكار الناس العاديين، واستغل ذلك خصوم الإسلام وشريعته ودعوته. وطالما قلت إن القوانين وحدها لا تصنع المجتمعات ولا تبني الأمم، إن تصنع المجتمعات والأمم، التربية والثقافة، ثم تأتي القوانين سياجاً وحماية.
فالواجب إذن أن نعطي هذه القضية حجمها الحقيقي من الفكر والعمل، وأن تعطى مساحات مناسبة للإعداد والمطالبة، بـ (تربية إسلامية متكاملة معاصرة) تتابع الطفل المسلم من سن الحضانة وتستمر معه حتى يتخرج في الجامعة مستخدمة المناهج الملائمة والأساليب المشوقة والوسائل السمعية والبصرية والتكنولوجيا المتطورة بما يحقق ضرورة الدين للحياة، ويؤكد كمال الإسلام وعدالة أحكامه وإعجاز كتابه وعظمة رسوله وتوازن حضارته وخلود أمته.
وليست هذه التربية مطلوبة في درس الدين أو التربية الإسلامية فحسب، بل هي مطلوبة، في كل الدروس والمواد العلمية والأدبية، دون افتعال. فلتلتمس في العلوم والمواد الاجتماعية واللغة والأدب، وتلتمس في الأنشطة المدرسية وفي الجو العام حتى يساعد على تنشئة جيل مسلم مؤمن بالله معتز بدينه وأمته، متكامل النماء بروحه وعقله وجسمه ووجدانه مخلص لربه، وخادم لوطنه متسامح مع غيره عامل لخير الإنسانية جمعاء.
ولابد من الوقوف في وجه الفلسفات والمناهج المادية واللادينية المستوردة الفارغة من روح الدين والمناقضة فلسفة الإسلام عن الله وعن الإنسان، وعن الحياة والعالم وعن الدين والدنيا.
كما يجب أن تعطى مساحات أخرى مناسبة كذلك لقضية الإعلام والثقافة. فلا يجوز بحال من الأحوال أن تترك هذه في أيدي من لا يؤمنون بالإسلام مرجعاً أعلى لحياة الإنسان المسلم وحياة الجماعة المسلمة في التعامل والفكر والسلوك.
محوران متكاملان
ولابد من العمل على محورين اثنين متكاملين، الأول، إعداد إعلاميين إسلاميين في كل المجالات، وعلى كل المستويات، قادرين على أن يمثلوا الإسلام، ويمثلوا العصر بإمكاناته الهائلة. ويدخل في ذلك أهل الفنون المختلفون من غناء ومسرح وتمثيل. وهنا نحتاج إلى من يكتب النص ومن يحوله إلى حوار (سيناريو) ومن يخرجه ويمثله، ومن يصوره ومن ينفذه. وهذه أمور ليست بالسهلة وفيها عقبات شرعية وغير شرعية يجب العمل على تذليلها، ولو بقبول المرحلية فيها ووضع خطة محددة الأهداف، بيّنة الوسائل، معروفة المراحل لاستكمال الناقص وإتمام البناء.
الثاني، محاولة كسب الإعلاميين والفنانين الحاليين، فلاشك أن فيهم من المسلمين المصلين الصائمين ولكنهم بحكم تربيتهم وثقافتهم يحسبون أن ما يصنعونه ليس مخالفاً للإسلام ولا يجلب سخط الله عليهم وربما عرف بعضهم شيئاً من ذلك، ولكن العيشة التي يعيش فيها والحياة التي تعودها غلبتها عليه، والواجب هنا بذل الجهد مع هؤلاء حتى يتفقهوا في دينهم ويتوبوا إلى ربهم وينضموا إلى قافلة الداعين إلى الإسلام وفضائله.
ولقد عرفت السنوات الأخيرة توبة عدد من الفنانين وعدد أكبر من الفنانات ولكن أكثرهم اعتزلوا الفن وأهله نجاة بأنفسهم وفراراً بدينهم.
وأولى من ذلك أن يثبتوا في هذا المعترك الصعب وهذا الميدان الشاق وأن يقولوا ما قال عمر بن الخطاب بعد إسلامه (والله لا يبقى مكان كنت أعلن فيه الجاهلية إلا أعلنت فيه الإسلام) وهذا لا يكون إلا بالتعاون بين الجميع والتغلب على المعوقات وما أكثرها.