د. يوسف القرضاوي
الجهاد اليوم فريضة للذين اغتصبوا أرضنا المقدسة
مما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، أن الجهاد لتحرير أرض الإسلام ممن يغزوها ويحتلها من أعداء الإسلام واجب محتم وفريضة مقدسة على أهل البلاد المغزوة أولاً، ثم على المسلمين من حولهم إذا عجزوا عن مقاومتهم حتى يشمل المسلمين كافة.
فكيف إذا كانت هذه الأرض الإسلامية المغزوة هي القبلة الأولى للمسلمين. وأرض الإسراء والمعراج، وبلد المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله؟ وكيف إذا كان غزاتها هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا؟ وكيف إذا كانت تساندها أقوى دول الأرض اليوم، وهي الولايات المتحدة الأميركية، كما يساندها اليهود في أنحاء العالم؟
إن الجهاد اليوم لهؤلاء الذين اغتصبوا أرضنا المقدسة، وشردوا أهلها من ديارهم، وسفكوا الدماء، وانتهكوا الحرمات، ودمروا البيوت، وأحرقوا المزارع، وعاثوا في الأرض فساداً، هذا الجهاد هو فريضة الفرائض، وأول الواجبات على الأمة المسلمة في المشرق والمغرب. فالمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، وهم أمة واحدة، جمعتهم وحدة العقيدة، ووحدة الشريعة، ووحدة القبلة، ووحدة الآلام والآمال. كما قال تعالى (إن هذه أمتكم أمة واحدة) الأنبياء، (إنما المؤمنون أخوة) الحجرات. وفي الحديث الشريف "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله" رواه مسلم.
وها نحن نرى اليوم إخواننا وأبناءنا في القدس الشريف، وفي أرض فلسطين المباركة، يبذلون الدماء بسخاء، ويقدمون الأرواح بأنفس طيبة، ولا يبالون بما أصابهم في سبيل الله فعلينا، نحن المسلمين في كل مكان، أن نعاونهم بكل ما نستطيع من قوة (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) الأنفال، (وتعاونوا على البر والتقوى) المائدة.
ومن وسائل هذه المعاونة، مقاطعة بضائع العدو مقاطعة تامة، فإن كل ريال أو درهم أو قرش أو فلس، نشتري به سلعهم يتحول في النهاية إلى رصاصة تطلق في صدور إخواننا وأبنائنا في فلسطين.
لهذا واجب علينا ألا نعينهم على إخواننا بشراء بضائعهم، لأنها إعانة على الإثم والعدوان. فالشراء منهم يقويهم، وواجبنا أن نعمل على إضعافهم ما استطعنا، كما علينا أن نقوي إخواننا المرابطين في الأرض المقدسة ما استطعنا، فإن لم نستطع أن نقويهم، فالواجب علينا إضعاف عدوهم. فإذا كان إضعافهم لا يتم إلا بالمقاطعة، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
آن الأوان لأمتنا الإسلامية أن تقول "لا لأمريكا"
والبضائع الأمريكية مثل البضائع الإسرائيلية في حرمة شرائها والترويج لها. فأميركا اليوم هي إسرائيل الثانية، ولولا التأييد المطلق، والانحياز الكامل للكيان الصهيوني الغاصب ما استمرت إسرائيل تمارس عدوانها على أهل المنطقة، ولكنها تصول وتعربد ما شاءت بالمال الأميركي، والسلام الأميركي، والفيتو الأميركي.
وأميركا تفعل ذلك منذ عقود من السنين، ولم تر أي أثر لموقفها هذا، ولا أي عقوبة من العالم الإسلامي احتجاجاً على مواقفها المتحيزة الجائرة.
وقد آن الأوان لأمتنا الإسلامية أن تقول "لا لأمريكا" ولشركاتها ولبضائعها التي غزت أسواقنا، حتى أصبحنا نأكل ونشرب ونلبس ونركب ما تصنع أميركا.
ولقد قال علي رضي الله عنه "ثلاثة عدوك: عدوك، وصديق عدوك، وعدو صديقك". وأميركا اليوم أكثر من صديق لعدونا، إنها وصلت مرحلة الفناء في إسرائيل.
إن الأمة الإسلامية تبلغ اليوم ملياراً وثلث المليار من المسلمين في أنحاء العالم يستطيعون أن يوجعوا أميركا وشركاتها بمقاطعتها. وهذا ما يفرضه عليهم دينهم وشرع ربهم. فكل مسلم اشترى من البضائع الإسرائيلية والأميركية ما يجد بديلاً له من دول أخرى، فقد ارتكب حراماً، واقترف إثماً مبيناً، وباء بالوزر عند الله، والخزي عند الناس.
وأما الأخوة المسلمون الذين يعيشون داخل إسرائيل، أو داخل أميركا، فهم مضطرون للتعامل معهم، وشراء سلعهم ومنتجاتهم، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. والضرورات لها أحكامها. ولكنها تقدر بقدرها، وقد قال تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) التغابن. وقال رسوله الكريم "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" متفق عليه.
المقاطعة سلاح فعّال
على المسلمين في داخل الولايات المتحدة أن يتعاملوا مع الشركات الأقل عداء للمسلمين، والأقل تعصباً وممالأة للصهيونية، وأن يقاطعوا ما أمكنهم الشركات المتحيزة للصهيونية.
كما يجب على العرب والمسلمين حيثما كانوا أن يقاطعوا كل الشركات المنحازة للصهاينة، والمساندة لإسرائيل، من أي بلد كانت، مثل (ماركس آند سبنسر)، ومن كان على شاكلته في تأييد الصهيونية، ومؤازرة دولتها (إسرائيل).
إن المقاطعة سلاح فعال من أسلحة الحرب قديماً وحديثاً، وقد استخدمه المشركون في العهد المكي في محاربة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فآذاهم إيذاء بليغاً، حتى أكلوا أوراق الشجر.
كما استخدمه بعض الصحابة في محاربة المشركين في العهد المدني، كما روت كتب السيرة. لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي رضي الله عنه، ثم خرج معتمراً، فلما قدم مكة، قالوا: أصبوت يا ثمامة؟ فقال: لا، ولكني اتبعت خير الدين، دين محمد، ولا والله لا تصل إليكم حبة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم خرج إلى اليمامة، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً. فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك تأمر بصلة الرحم، وإن قد قطعت أرحامنا، وقد قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه أن يخلي بينهم وبين الحمل.
وفي العصر الحديث رأينا الشعوب تستخدم سلاح المقاطعة في معاركها للتحرر من الاستعمار. ولعل أبرز من فعل ذلك المهاتما غاندي في دعوته الشعب الهندي الكبير لمقاطعة بضائع الإنجليز، وقد كان لذلك أثره البليغ في حرب التحرير.
والمقاطعة سلاح في أيدي الشعوب والجماهير وحدها، ولا تستطيع الحكومات أن تفرض على الناس أن يشتروا بضاعة من مصدر معين. فلنستخدم هذا السلاح لمقاومة أعداء ديننا وأمتنا، حتى يشعروا بأننا أحياء، وبأن هذه الأمة لم تمت ولن تمون بإذن الله.
على أن في المقاطعة معاني أخرى غير المعنى الاقتصادي. إنها تربية للأمة من جديد على التحرر من العبودية لأذواق الآخرين الذين علموها إدمان أشياء لا تنفعها، بل كثيراً ما تضرها، وهي إعلان عن أخوة الإسلام، ووحدة أمته، وأننا لن نخون إخواننا الذين يقدمون الضحايا كل يوم، بالإسهام في إرباح أعدائهم. وهي لون من المقاومة السلبية، يضاف إلى رصيد المقاومة الإيجابية، التي يقوم بها الأخوة في أرض النبوات، أرض الرباط والجهاد.
وإذا كان كل يهودي في العالم يعتبر نفسه مجنداً لنصرة إسرائيل بكل ما يقدر عليه، فإن كل مسلم في أنحاء الأرض مجند لتحرير الأقصى، ومساعدة أهله بكل ما يمكنه من نفس ومال. وأدناه مقاطعة بضائع الأعداء. وقد قال تعالى (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).
وإذا كان شراء المستهلك البضائع اليهودية والأميركية حراماً وإثماً، فإن شراء التجار لها ليربحوا من ورائها، وأخذهم توكيلات شركاتها أشد حرمة وأعظم إثماً، وإن تخفّت تحت أسماء يعلمون أنها مزورة، وأنها إسرائيلية الصنع يقيناً.
إن الأمة الإسلامية في أنحاء الأرض مطالبة بأن تثبت وجودها، وغيرتها على مقدساتها، وبأن تعرف ما لها وما عليها، من صديقها ومن عدوها، ولا يجوز لها أن تستسلم للوهن واليأس، وتقبل السلام الجائر الذي تفرضه عليها الصهيونية المغتصبة. يقول الله تعالى (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) محمد.
وعلى أخواتنا وبناتنا من ربات البيوت دور كبير في هذه القضية لعله أهم من دور الرجل، لأن المرأة هي التي تشرف على طلبات البيت، وشراء ما يلزم له من السلع والأدوات، وهي الألصق بتوجيه البنين والبنات من الأطفال، وإشرابهم الروح الجهادية، وتوعيتهم بما يجب عليهم نحو أمتهم وقضاياها، وما يلزمهم نحو أعدائها وخصوصاً في مجال المقاطعة، وإذا وعي الأطفال ذلك التزموه بحماسة وقوة، وأصبحوا هم بعد ذلك الذين يوجهون الآباء والأمهات. وإني أدعو هنا كل المؤمنين بالله تعالى من المسيحيين ومن غيرهم، وكل المؤمنين بالقيم الأخلاقية، وكل الأحرار والشرفاء في العالم إلى أن يقفوا بجانبنا، وأن يساندوا الحق ضد الباطل، والعدل ضد الظلم، وأن ينتصروا للمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يسقط منهم كل يوم قتلى وجرحى في سبيل الله والدفاع عن حرماتهم ومقدساتهم.
كما أهيب بالعمال في بلاد العرب والمسلمين وفي أنحاء الأرض، أن يناصروا الفلسطينيين في قضيتهم العادلة، ويغضبوا لهم، ويحتجوا على أصحاب القوة الغاشمة بما يقدرون عليه من تعطيل مصالحهم.
وأخيراً أدعو الحكماء والعقلاء وأهل الخبرة في كل بلد، أن يكوّنوا اللجان التي تنظم المقاطعة، وتهيئ البدائل، وتتفادى السلبيات، وتستمر في توعية الجماهير، حتى تعلو كلمة الحق، ويزهق الباطل (إن الباطل كان زهوقا)، (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة، فينبئكم بما كنتم تعملون).