السؤال: هل المخاطب بالتكاليف الفرد أو الجماعة؟

جواب فضيلة الشيخ:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعه إلى يوم الدين، وبعد:

التكاليف يخاطب بها الفرد والجماعة معًا، كل فرد مسؤول عن نفسه، مثلًا الزكاة أنا مطالب بها، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (البقرة:43)، فأنا مطالب بأن أقيم الصلاة وأن أؤدي الزكاة، هذا خطاب لكل فرد، والجماعة مسؤولة أيضًا مسؤولية تضامنية عن هذه الأمور، الجماعة مسؤولة عن إخراج الزكاة وعن إقامة الصلاة، فالفرد مسؤول ومكلف بالواجبات، والأمة مسؤؤلة مسؤولية تضامنية؛ لأن الله فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفرض النصيحة في الدين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" (1). وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر:1-3)، فالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فريضة على الأمة، وكل مسلم مطالب بأن يوصي غيره بالحق، وأن يدعوه إلى الخير، وأن يأمره بالمعروف، وأن ينهاه عن المنكر.

لو أن أحد الأغنياء لم يعط الزكاة المفروضة، فعلى من حوله من أقاربه، ومن جيرانه، ومن يعرف حاله: أن يأمره بإيتاء الزكاة، ويبين له أنها حق الله، وحق الفقراء، وحق المجتمع، ويحذره من عقاب الله في الدنيا وعقابه في الآخرة، وأن الله يمحق ماله ويمحق بركته إن لم يخرج زكاته، وأنه تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة:34- 35).

فمسؤولية المجتمع والدولة والأمة مسؤولية تضامنية، مع المسؤولية الفردية العينية التكليفية، ومن أجل هذا وجدنا القرآن يخاطب بالأحكام الجماعة المؤمنة، فمثلا يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة:183)، ولم يقل: يا أيها المؤمن؛ لأن المؤمنين مسؤولون مسؤولية تضامنية عن إقامة الصيام، بحيث لو ضاع رمضان الجماعة مسؤولة عمن لم يصم. والإسلام لا يتصوَّر الإنسان وحده، إنما يتصوَّره في مجتمع، ولهذا توجهت التكاليف إليه بصيغة الجماعة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، ولم يجئ في القرآن: "يا أيها المؤمن"؛ وذلك أن تكاليف الإسلام تحتاج إلى التكاتف والتضامن في حملها والقيام بأعبائها، يستوي في ذلك العبادات والمعاملات.

فإذا نظرنا إلى فريضة كالصلاة، وجدنا أنها لا يمكن أن تقام كما يريد الإسلام، إلا بمسجد يتعاون الجميع على بنائه، ومؤذن يُعْلِم الناس بمواقيت الصلاة، وإمام يؤمُّهم، وخطيب يخطبهم، ومعلِّم يعلِّمهم، وهذا كلُّه لا يقوم به الفرد، وإنما ينظِّمه المجتمع. وقد جعل القرآن أول أعمال الدولة المسلمة إذا مُكِّن لها في الأرض: أن تقيم الصلاة. كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ... } (الحج:41)، ومثل ذلك يقال في فريضة الصوم، وضرورة ترتيب أمور الحياة في رمضان ترتيبًا يُعين على الصيام والقيام والسحور.. وغيرها.

ومن باب أولى: الزكاة، فالأصل فيها أنها تنظيم اجتماعي، تُشرف عليه الدولة، بواسطة "العاملين عليها"، الذين نصَّ عليهم القرآن. وكذلك كل شعائر الإسلام وأركانه. أما الأخلاق والمعاملات فلا يُتصوَّر أن تقوم- كما ينشدها الإسلام- إلا في ظلال مجتمع ملتزم بالإسلام، يتعبَّد لله بإقامة حياته على أساس الإسلام.

وهناك تكليفات شرعية هي في الأصل مسؤولية الدولة، وهي الحدود، مثلا قول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَاخُذْكُمْ بِهِمَا رَافَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (النور:2)، أو قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (المائدة:38).

الأمة مخاطبة بهذه التكاليف والأحكام، ولكن هل الأمة هي التي تقطع يد السارق؟ أو هل هي التي تجلد الزاني؟ لا، هذا عمل الحكومة، ولكن الأمة مسؤولة عن الحكومة، فلو قصرت الحكومة، فالأمة مسؤولة أن تأمرها بالمعروف وتنهاها عن المنكر، وأن تضغط عليها حتى تنفذ أوامر الله، وتحكِّم شرعه، وأن تعمل على أن تأتي بحكومة تقيم أوامر الله ونواهيه.

فالتكاليف الشرعية هي مسؤولية الفرد، ومسؤولية الجماعة معًا.

.................

(1) رواه مسلم في الإيمان (55)، وأحمد (16947)، والترمذي في البر والصلة (1926)، عن تميم الداري.