السؤال: مشكلة تكررت كثيرا في بعض البلدان، وهي: أن الزوج يطلق زوجته طلاقا رجعيا، وقبل انقضاء عدتها بقليل يراجعها، ويعيدها إلى عصمته وهي لا تعلم، ثم يتقدم إلى المرأة من يخطبها، فتتزوج، وبعد مدة تفاجأ بزوجها الأول يرفع عليها دعوى بأنها تزوجت وهي متزوجه، وهي جريمة كبيرة، والمرأة تقول: ما ذنبي؟ أنا لم أعلم أنه ردني. فهل من حل شرعي لهذه المشكلة؟ وما حكم هذا الزواج الثاني، وخصوصا إذا طال، وكان منه إنجاب؟
جريدة "المسلمون" السعودية
جواب فضيلة الشيخ:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فلو أن الناس التزموا بأحكام الشرع وآدابه؛ ما حدثت هذه المشكلة التي يشكى منها، وذلك أن الأصل في الطلاق أن يكون رجعيا، لقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة:229) أي الطلاق الذي تراجع فيه الزوجة مرتان، إذ الثالثة لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.
ولم يستثن الشرع من حق الرجوع للزوج إلا ثلاثة أنواع من الطلاق:
الأول: طلاق المرأة قبل الدخول بها، فطلاقها بائن ولا عدة عليها، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} (الأحزاب:49).
الثاني: الطلاق على مال، وهو "الخلع" كما قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (البقرة:229)، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة"، وليس معقولا أن تفدي نفسها منه برد ما أخذت منه، ثم يمكَّن من إعادتها إلى عصمته.
الثالث: الطلاق الثالث، وهو الذي قال الله تعالى فيه: {فَإِن طَلَّقَهَا (أي بعد المرتين) فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (البقرة:230).
وما عدا ذلك فالطلاق رجعي، كما يدل عليه القرآن، ومن حق الزوج مراجعة زوجته ما دامت في عدتها، كما قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاحًا} (البقرة:228) فسمى القرآن المطلّق "بعلا" أي زوجا، وجعله أحق برد مطلقته في ذلك أي في وقت العدة.
ومعنى هذا: أن الزوجية لم تنقطع تماما بالطلاق الرجعي، فإن نفقتها واجبة عليه مدة العدة، ولو مات أثناء العدة ورثته، ولو ماتت ورثها.
ومما يؤسف له أن هناك أحكاما وآدابا شرعها الله تعالى وأمر بها أن تراعى في عدة النساء، ولكن الأزواج والزوجات جميعا لا يهتمون -غالبا- بتنفيذها.
وهذا ما جاء في سورة في القرآن سميت "سورة الطلاق" وجاء في مطلعها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا * فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (الطلاق:1-2).
فنجد في هاتين الآيتين خمسة أوامر إلهية مهمة:
الأول: أن تطلق المرأة لعدتها. قال ابن عباس: لا يطلقها وهي حائض، ولا في طهر جامعها فيه، ولكن يتركها حتى إذا حضت وطهرت طلقها تطليقة. وهذا هو طلاق السنة.
الثاني: إحصاء العدة، ومعناه: أن تحفظ ويعرف ابتداؤها وانتهاؤها، لئلا تطول العدة على المرأة.
الثالث: اتقاء الله تعالى بعدم إخراج المرأة من بيتها، وعدم خروجها هي منه أيضا. ومن الملاحظ: أن القرآن عبر عن بيت الرجل بأنه بيتها {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} وتعليل النهي عن الإخراج والخروج بقوله: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} إشارة إلى أن القلوب التي غضبت يمكن أن ترضى، والعلاقة التي تكدرت يمكن أن تصفو، وتعود المياه إلى مجراها الطبيعي، ويراجع الرجل زوجته، وتطيب الحياة من جديد.
ولو أن المسلمين التزموا هذا التعليم لكان من ورائه الخير، ولكنا نجد المرأة إذا وقع عليها الطلاق، تجمع ثيابها، وتذهب في التو إلى بيت أبيها، والزوج يتركها، والأهل لا ينكرون عليها، ولا غرو أن يراجعها الرجل بعد ذلك وهي لا تدري.
الرابع: من الأوامر قوله تعال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ومعنى {بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}: أي قاربن انتهاء العدة، إذ بعد انتهائها لا مجال لإمساكها بالمعروف.
فالرجل مطالب هنا: أن يمسكها -أي يراجعها- بمعروف، أي لا يريد مضارتها، أو إبقاءها أطول مدة في ذمته مكايدة ومضايقة لها. فليس هذا من المعروف ولا من الإحسان الذي أمر الله تعالى به، فإذا لم يرد إمساكها بمعروف، فليفارقها بمعروف، كما في الآية {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وفي موضع آخر: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا}، كما قال تعالى: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (البقرة:237).
الخامس: من الأحكام هنا قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} فقد أمر سبحانه بالإشهاد على الإمساك -وهو المراجعة- أو المفارقه.
والأصل في الأمر في القرآن: أنه للوجوب، ما لم يصرفه صارف، ولا أدري لماذا جعله الكثيرون هنا للندب والاستحباب، ولا أجد ما يصرفه عن الوجوب؟
فالإشهاد على الرجعة واجب، وإعلام المرأة بالرجعة إذا راجعها واجب، لما يترتب عليه من حق للزوج، وسقوط حقها بالزواج من غيره، فإذا كانت في البيت -كما أمر الله- فعلمها بذلك أمر طبيعي وميسور، وإذا أخرجت أو خرجت من البيت -خلافا لما أمر الله به- فإعلامها لازم، ولو تم الإشهاد والإعلام، لم تحدث المشكلة التي هي أساس الشكوى.
وأرى أن يتم ذلك بالتسجيل في المحكمة وإبلاغ الزوجة عن طريقها، وهذا أصبح أمرا ضروريا في الطلاق، كما هو ضروري في الزواج، حفظا للحقوق. وهو ما تعارف عليه الناس في مصر وكثير من الأقطار، ويسمونه "ورقة الطلاق".
وبهذا يتم الطلاق عند القاضي أو المأذون، كما تم الزواج من قبل عند أحدهما.
والله أعلم.
...................
* من كتاب "فتاوى معاصرة" لفضيلة الشيخ.