د. يوسف القرضاوي

من مزالق الاجتهاد المعاصر: القياس الفاسد، كأن يقيس النص القطعي على الظني في جواز الاجتهاد فيه، أو يقيس الأمور التعبدية المحضة على أمور العادات والمعاملات في النظر إلى حكمها ومقاصدها، واستنباط علل لها بالعقل ترتب عليها الأحكام.

والخطأ في القياس باب من أبواب الشر من قديم. حتى قيل: إن انحراف إبليس وعصيانه لله واستكباره عن امتثال الأمر، كان بسبب قياس فاسد، حين قال عن آدم: "أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ" (الأعراف:12) ، وأكلة الربا من اليهود وأشباههم أرادوا أن يستدلوا على إباحة الربا بقياسه على البيع كما حكى الله عنهم: " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا" (البقرة:275) .

ونحن لا ننكر القياس، كما فعلت المدرسة الظاهرية، بل نرى مع جمهور الأمة من السلف والخلف: أنه مصدر خصب من مصادر الأحكام، ودليل على إثراء الشريعة وخلودها وقدرتها على مواجهة التطور في كل زمان ومكان وحال.

المهم في القياس أن يكون مستندا إلى نص ثابت في قرآن أو سنة، اتضحت علته، ولم يجد فارقا بين الأصل المقيس عليه والفرع المقيس.

فلا اعتبار مثلا لقياس على غير أصل منصوص عليه.

أو على نص غير ثابت.

أو على نص ثابت ولكن لم تتضح علته.

أو اتضحت علته، ولكن وجد فارق معتبر بين الأصل والفرع.

فالذين يقيسون على حديث ضعيف، أو صحيح، ولكن لم تتضح العلة فيه، أو يقيسون مع وجود الفارق، أو يقيسون على أقول الفقهاء.. كل هؤلاء لا يقبل قياسهم.

وقد رأينا من يجيز للحكومة أن تستقرض من الشعب بفوائد الربوية، مستدلا بالقياس على أنه "لا ربا بين الوالد وولده" فكذلك لا ربا بين الحاكم والشعب!

والحق ـ كما قلنا في موضع آخر ـ أن هذا الحكم: "لا ربا بين الوالد وولده" لم يثبت بنص ولا بإجماع، إنما هو أمر قال به بعض الفقهاء وخالفه الأكثرون، فكيف نقيس على غير أصل؟

على أننا لو سلمنا بثبوت هذا الحكم ـ وهو غير مسلم ـ لم يسلم لنا القياس أيضا، لوجود الفارق الواضح بين الوالد وولده من ناحية، وبين الحكومة والرعية من ناحية أخرى، وذلك لأن هناك نصا مثبوتا في شأن الوالد وولده يقول: "أنت ومالك لأبيك" ولا يوجد مثل هذا في الجانب الآخر، فلم يأت نص يقول: "أنت ومالك للحكومة"!

وفتح باب الأقيسة من هذا النوع إنما هو فتح لباب الفوضى، حتى رأينا حاكما يريد أن يسوي بين الابن والبنت في الميراث قياسا على اجتهاده في منع تعدد الزوجات. أي أنه جعل اجتهاده ـ المرفوض ـ أصلا يقاس عليه مالا يجوز أن يدخل دائرة القياس ولا دائرة الاجتهاد أصلا، لأنه من باب المعلوم من الدين بالضرورة.

......................

* من كتاب "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية" لفضيلة الشيخ.