السؤال: سمعنا في بعض الأوساط الدينية -وبخاصة المتصوفة منها- حديثا يذكرونه كثيرا في مواعظهم وحلقاتهم، يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة، وبعد رجوعه منها قال لأصحابه: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر: جهاد النفس". وعادة ما يذكر هذا الحديث للتهوين من شأن الجهاد والقتال في سبيل الله، دفاعا عن الدين أو الوطن، وأن على المسلم أن يهتم قبل كل شئ بتربية نفسه، وجهادها، فهل هذا الحديث صحيح من ناحية سنده؟ ومن رواه من أصحاب الكتب المعتمدة؟ وهل هو صحيح من ناحية معناه ومضمونه؟
جواب فضيلة الشيخ:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله (وبعد)
فهذا الحديث ليس بصحيح ولا حسن، من ناحية سنده، ولم يخرجه مخرج من أصحاب الكتب المعتمدة لدى المسلمين، فليس هو في أحد الصحيحين، ولا في أحد الكتب الستة، ولا في الموطأ، ولا في مسند أحمد على كثرة ما فيه.
قال الحافظ بن حجر في (تسديد القوس في تخريج مسند الفردوس): هو مشهور على الألسنة، وهو من كلام إبراهيم بن عيلة. انتهى. وقال العجلوني في (كشف الخفا): الحديث في الإحياء، قال العراقي رواه البيهقي بسند ضعيف عن جابر، ورواه الخطيب في تاريخه عن جابر بلفظ: قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزاة، "فقال عليه الصلاة والسلام: قدمتم من خير مقدم، وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال مجاهدة العبد هواه"والمشهور على الألسنة: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الأكبر، دون باقيه، ففيه اقتصار. انتهى. وأما معناه، فهو يتضمن أمرين، أحدهما مرفوض قطعا، وهو المفهوم منه بالتبع، لا بالقصد والأصالة، وإن كان الذين يروونه ويروجونه يقصدون إلى ذلك.
والثاني: يمكن أن يقبل شرعا، وهو المفهوم منه قصدا، لا تبعا.
فأما المعنى الأول المرفوض فهو التقليل من شأن الجهاد في سبيل الله، والتهوين من مكانته وفضله في الإسلام، وضرورته للدفاع عن كيان الأمة ومقدساتها، إذا اعتدى عليها المعتدون، وتطاول عليها الطغاة المستكبرون. والقرآن الكريم، والسنة الشريفة: حافلان بالنصوص الغزيرة المتوافرة التي تبين فضيلة الجهاد وعلو منزلته في دين الله، بما لا يدع مجالا لأي ريب.
وحسبنا من القرآن قوله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله؟ لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين. الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون. يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم. خالدين فيها أبدا، إن الله عنده أجر عظيم} (التوبة:19،22)
وقال تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما. درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما} (النساء:95،96) .
وفي أكثر من حديث صحيح: أن فضل الجهاد يفوق فضل الصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر. وفي حديث معاذ بن جبل المشهور: "ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر: الإسلام، وعموده: الصلاة، وذروة سنامه: الجهاد في سبيل الله". وفي الحديث الآخر: "لمقام أحدكم في الصف خير من صلاته في بيته ستين عاما"، إلى غير ذلك من الأحاديث، وهي غزيرة وفيرة، تراجع في كتاب (الجهاد) في الصحيحين والسنن، وفي مظانها في المسانيد. وقد ألفت كتب خاصة في فضل الجهاد، كما في كتاب عبد الله بن المبارك رضي الله عنه.
وأما المعنى المقبول من الحديث، فهو العناية بجهاد النفس، ورياضتها، والعمل على إلجامها بلجام التقوى، ومقاومة أهوائها وشهواتها، حتى تنتقل من حالة (النفس الأمارة بالسوء) إلى حالة (النفس اللوامة) ثم ترتقي حتى تصل إلى (النفس المطمئنة) .
وهذا يحتاج إلى جهاد طويل النفس، بعيد الأغوار، كثير المشقات، ولكنه مبارك الثمرات، موفور الخيرات، ولا ريب أن نهاية هذا الطريق الشاق المضني هي الهداية إلى سبيل الله تعالى، كما قال عز وجل: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين} (العنكبوت:69) .
وفي الحديث: "المجاهد: من جاهد هواه"(1) وجهاد النفس هنا هو أحد أنواع الجهاد المطلوبة من المسلم، وقد أوصلها العلامة ابن القيم إلى ثلاث عشرة مرتبة. منها أربع مراتب في جهاد النفس، ومرتبتان في جهاد الشيطان.
والله الموفق للصواب.
......................
(1) رواه: أبو داود، الترمذي وقال: حسن صحيح، وأحمد كلهم عن فضالة بن عبيد.