السؤال: أنا طالب علم في السنة الرابعة في الكلية الأوروبية للدراسات الإسلامية في فرنسا، أجري بحثًا بالعنوان التالي: "التعامل مع الجار غير المسلم في بلد غير إسلامي"، وسيكون هذا البحث بحث تخرجي إن أراد ذلك المولى سبحانه. ولقد أوقفتني مسألة فأود من فضيلتكم مساعدتي فيها وهي:
إذا دعا جار غير مسلم جاره المسلم إلى طعام ووضع على مائدة الطعام زجاجة من خمر:
1 ـ هل إجابة الدعوة واجبة؟
2 ـ هل تدخل هذه الحالة في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها بالخمر" (أخرجه الترمذي وأحمد وصححه الحاكم).
3 ـ هل يجوز له هذا الجلوس؟
4 ـ في حالة ما يظن هذا بعد دعوة الجار، هل عليه أن يسأل جاره ليتأكد بعدم الوقوع في ذلك المحظور أو يترك الأمر حتى يذهب إلى بيت جاره.
5 ـ هل هناك حالات يجوز فيها هذا الجلوس؟
6 ـ هل يمكن أن ندخل في حالة الجواز سبب الدعوة، أعني: إن قصد المسلم بنفسه دعوة جاره غير المسلم إلى الإسلام، وتوقع ميله إليه، هذه الحالة: هل يمكن له أن يجلس مع جاره بنية الدعوة إلى الله عملاً بالقاعدة: ارتكاب أخف المنكر لإزالة منكر أكبر وهو كفر جاره.
أرجو منكم أن تفيدنا بما أفادكم الله مبينًا لنا أدلتكم في هذه المسالة.
جواب فضيلة الشيخ:
الابن العزيز، والطالب النابه عمر ريفي حفظه الله ورعاه وسدد خطاه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأرجو أن تكون وإخوانك جميعًا بخير وعافية في دينكم ودنياكم. كتب الله لكم التوفيق وأمدكم بروح من لدنه
(أما بعد)
فأقول ـ وبالله التوفيق ـ إجابة عن تساؤلاتك:
أولاً: إن الإسلام يؤكد حق الجار أبلغ التأكيد، سواء كان مسلمًا أم غير مسلم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} (النساء:36) والجار الجنب هو: البعيد، سواء بعيدًا في النسب، أم في الدين. أم في الدار.
وقد أوصى عبد الله بن عمرو غلامه ألا ينسى جاره اليهودي من ذبيحة ذبحها، وأكد وصيته له، حتى سأله الغلام عن سر هذا الاهتمام، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه".
ثانيًا: لا يجب على المسلم إجابة الدعوة التي توجه إليه إذا علم أن هناك منكرًا لا يستطيع تغييره، وما دام لا يمكنه إزالة المنكر، فليزل هو عنه.
هذا ما نص عليه الفقهاء فيمن دُعي إلى وليمة عرس، وعلم أن فيها بعض المنكرات، حتى عند من قالوا: إن إجابة الدعوة إلى وليمة العرس واجبة، وهناك من قال: إن الإجابة مستحبة وليست واجبة.
أما في غير وليمة العرس، فإن إجابة الدعوة ليست واجبة بالإجماع. وإنما تستحب توثيقًا للروابط، وتنمية لمشاعر المودة بين الناس، وخصوصًا إذا كانت بينهم وشائج وصلات معينة، مثل القرابة والجوار والزمالة.
ثالثًا: لعل السؤال الأهم هنا: هل يجوز له أن يذهب إلى هذه الدعوة، وإن لم يكن ذلك واجبا عليه؟
والجواب: أن الأصل في ذلك ألا يجوز ذلك، للحديث الذي ذكره السائل، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر."
ولأن من قواعد الإسلام: أن يحاصر المعصية من كل جهة حتى تنقطع جذورها، ولهذا يحرم كل عمل يؤدي إليها أو يعين عليها. وهذا ما جعل الرسول الكريم يلعن في الخمر عشرة، تشمل كل من ساعد على تناولها بصورة من الصور. وكذلك لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه.
ومن هنا يكون المسلم الذي يحضر مجالس الخمر آثمًا، وإن لم يشربها، لأن مجرد حضوره في تلك المجالس، يقوي مرتكبيها ويشد أزرهم.
وقد ورد أن عمر بن عبد العزيز أتي إليه بجماعة شربوا الخمر، ليقيم عليهم الحد، وقالوا له: يا أمير المؤمنين، إن فيهم رجلاً ليس ممن شرب، بل هو صائم! فقال: به فابدأوا، فإن الله تعالى يقول: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ...} (النساء:140) فاعتبر القرآن القاعدين مع الكفار المستهزئين مثلهم، أي في أصل الإثم.
ولا يعفي من الإثم هنا إلا خوف ضرر بليغ يحيق به إن هو رفض الدعوة، فهو يرتكب بالحضور أخف الضررين، ويرضى بأهون الشرين، وهذا من القواعد الشرعية المقررة: دفع الضرر الأعلى بتحمل ضرر أدنى.
ويقرب من ذلك: أن يرجو مصلحة كبيرة بقبوله الدعوة، مثل رجاء قبول هذا الجار للإسلام، وإحساسه ببداية انعطافه نحو هذا الدين، ويخشى أن تضيع هذه الفرصة، إذا أوحش قلب الرجل، وأعرض عن قبول دعوته. فللاجتهاد هنا مجال.
أما قضية سؤاله صاحب الدعوة عما إذا كان يوجد خمر أو خنزير أو نحو ذلك مما يحرمه الإسلام قطعًا. فهذا هو الأولى، حتى يعرف الرجل أن المسلم لا يشرب خمرًا، ولا يأكل خنزيرًا..إلخ وهذا ما يفعله المسلمون الذين يعيشون في مجتمعات غير إسلامية، يعرِّفون من يدعونهم أنهم لا يتناولون المسكرات، ولا يجلسون على مائدة تقدم فيها، وهذا ما يجعل جيرانهم وزملاءهم حين يدعونهم يحترمون قيمهم ومبادئهم، ولا يقدمون لهم شيئًا من هذا.
وهذا أولى من أن يترك الأمر معمّى، حتى يفاجأ بما لم يكن في حسبانه، ويعتذر عن عدم تلبية الدعوة، بعد أن يكون داعيه قد كلف نفسه، وتوقع حضوره.
وبالله التوفيق