السؤال: أرجو أن تتفضلوا بالإجابة عن هذا السؤال بما عهد عنكم من الشرح والتفصيل وهو:
هل صحيح أن الإسلام لا يعترف بالعدوى! وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى" وأن الأمور كلها تجري بقضاء الله وقدره، فلا داعي للخوف من العدوى. إن انتشار مثل هذه الأفكار بين العامة يعوق عمل الذين يعملون في الصحة العامة أو في الطب الوقائي ولا سيما إذا روجها أناس يتحدثون باسم الدين، ممن يلبسون لبوس المشايخ أو المطاوعة، كما سمعت ذلك من خطبة جمعة بأحد المساجد أخيرًا.
نحن نعتقد بما لدينا من معلومات محدودة عن ديننا الإسلامي أنه يحرص على الصحة ويقاوم الأمراض، ويأمر بالوقاية قبل المرض، وبالعلاج بعد المرض، ويحذر من العدوى. ولكنا نرجو إسهامكم في نشر الوعي الصحي ببيان موقف الشرع الإسلامي من هذه الأمور، مؤيدًا بالأدلة من الكتاب والسنة. جزاكم الله خيرًا
جواب فضيلة الشيخ:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعه إلى يوم الدين، وبعد:
إن من أكبر آفات الإسلام في عصرنا ما يتمثل في أولئك الحشوية من أنصاف الجهلة أو أنصاف المتعلمين، الذين يتزيون بزي الدين ويتحدثون باسمه وعاظًا أو خطباء أو مدرسين وهم لا يعرفون منه إلا قشورًا تافهة، أو نقولا رديئة أو معلومات مشوشة، أو أحاديث موضوعة أو ضعيفة، أو حتى صحيحة ولكنهم يضعونها في غير موضعها ،ويفهمونها على غير وجهها فيَضلون ويُضلون.
ويزيد الطين بلة أن هؤلاء كثيرًا ما يجدون منزلة في قلوب العوام الذين لا يميزون بين الغث والسمين، فهم يستميلون عواطفهم، ويشبعون أخيلتهم بالمبالغات في الترغيب والترهيب، والقصص والحكايات. والحقيقة أن موقف الإسلام من الصحة والوقاية وسلامة الأبدان موقف لا نظير له في أي دين من الأديان، فالنظافة فيه عبادة وقربة، بل فريضة من فرائضه..
( أ ) إن كتب الشريعة في الإسلام تبدأ أول ما تبدأ بباب عنوانه "الطهارة" أي النظافة فهذا أول ما يدرسه المسلم والمسلمة من فقه الإسلام؛ وما ذلك إلا أن الطهارة هي مفتاح العبادة اليومية "الصلاة" كما أن الصلاة مفتاح الجنة فلا تصح صلاة المسلم ما لم يتطهر من الحدث الأصغر بالوضوء ومن الحدث الأكبر بالغسل. والوضوء يتكرر في اليوم عدة مرات، تغسل فيه الأعضاء التي تتعرض للاتساخ والعرق والأتربة.
ومن شرط صحة الصلاة كذلك نظافة الثوب والبدن والمكان من الأخباث والقاذورات، وفوق ذلك أشاد القرآن والسنة بالنظافة وأهلها، فقال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة:222)، وأثنى على أهل مسجد قباء فقال {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (التوبة:108)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "الطهور شطر الإيمان" أي نصفه، وهو حديث صحيح رواه مسلم. وروي في حديث عند الطبراني "النظافة تدعو إلى الإيمان، والإيمان مع صاحبه في الجنة".
ومن ذلك شاعت بين المسلم هذه الحكمة التي ينطق بها خاصتهم وعامتهم، ولا يعرف لها مثيل عند غيرهم، وهي "النظافة من الإيمان"، وروى في بعض الأحاديث "تنظفوا فإن الإسلام نظيف"، "تنظفوا حتى تكونوا كالشامة بين الأمم".
وقد عني النبي صلى الله عليه وسلم بنظافة الإنسان، فدعا إلى الاغتسال، وخاصة يوم الجمعة: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" (رواه مالك وأحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري)، "حق على كل مسلم في كل سبعة أيام يوم يغسل فيه رأسه وجسده" (متفق عليه عن أبي هريرة) .
وعني بنظافة الفم والأسنان خاصة، فرغب في السواك أعظم الترغيب: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" (رواه أحمد عن أبي بكر والشافعي في مسنده وأحمد أيضًا والنسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي عن عائشة وابن ماجة وعن أبي أمامة الباهلي وعلقه البخاري بصيغة الجزم)، وبنظافة الشعر: "من كان له شعر فليكرمه" (أبو داود عن أبي هريرة)؛ وبإزالة الفضلات من الإبط والعانة وتقليم الأظافر..
وعني بنظافة البيت وساحاته وأفنيته فقال: "إن الله جميل يحب الجمال، طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، فنظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود" (رواه مسلم من حديث ابن مسعود)، وعني بنظافة الطريق، وتوعد كل من ألقى فيه أذى أو قذرًا.
(ب) وحذر أشد التحذير من أعمال قد يرتكبها بعض الجهال دون اكتراث لنتائجها، مع أنها تعد من أشد مصادر العدوى خطرًا، فضلاً عما في ارتكابها من منافاة الذوق السليم والبعد عن خصائص الإنسان الراقي، ومن هذا الأعمال: البول في الماء وبخاصة الراكد، البول في الحمام، التبرز في الظل أو في الطريق أو في موارد الماء، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمور "الملاعن الثلاث"؛ لأنها تجلب على صاحبها لعنة الله والملائكة والصالحين من الناس.
(جـ) كما رغب الإسلام في العمل والنشاط والحركة والبكور، وحذر من التباطؤ والتكاسل والترهل، ودعا إلى رياضة الأجسام بالسباحة والرماية وركوب الخيل، وما شابهها من ألوان الفروسية وجعل من حق الأولاد على آبائهم أن يدربوهم على ذلك ، وشرع التنافس والمسابقات تشجيعًا على ذلك، وإغراء به، وسبق النبي صلى الله عليه وسلم بين الخيل، وأعطى السابق، كما شرع المسابقة على الأقدام ونحوها.
( د ) ومن عناية الإسلام بصحة الأجسام: تحريمه المسكرات والمفترات (المخدرات) مهما اتخذت لها من أسماء وعناوين، وتشديده في ذلك غاية التشديد، وإيجابه العقوبة الشرعية على من تناولها، وتأثيمه كل من شارك فيها بجهد ما، يساعد على تناولها، حتى أنه لعن في الخمر عشرة.
(هـ) ومن عناية الإسلام بالأجسام: إنكاره على من حرم ما أحل الله من الطيبات تدينًا، أو شحًا {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف:32)، {لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ} (المائدة:87)، وفي مقابل ذلك نهى عن الإسراف في الطعام والشراب خشية الإضرار بالبدن {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف:31)، والإسلام دين إعتدال في كل شيء.
(و) كما أنه حرم إرهاق البدن بالعمل وطول السهر والجوع، وإن كان ذلك في صورة عبادة الله تعالى، فقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على رهط من أصحابه أراد أحدهم أن يقوم الليل فلا ينام، والثاني أن يصوم الدهر فلا يفطر، والثالث أن يعتزل النساء فلا يتزوج، وقال لهم: "أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني"، كما أنه أنكر على عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو وغيرهما الغلو في التعبد، مذكرًا بحق أبدانهم وأسرهم ومجتمعهم عليهم.
( ز) ومن عناية الإسلام بحق الأجسام ما شرعه من رخص في اداء الفرائض، إذا كان العمل بالعزائم يؤذي الجسم -كأن يسبب له مرضًا، أو يزيد في مرض قائم، أو يؤخر الشفاء منه، أو يؤدي إلى مشقة زائدة، فهنالك يدع الوضوء إلى التيمم، والصلاة قائمًا إلى الصلاة قاعدًا أو مضطجعًا، وله الفطر في رمضان، إلى غير ذلك من أنواع التخفيف إلى بدل أو إلى غير بدل، حتى أصبح مقررًا عند عامة المسلمين: أن صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان.
(ح) والإسلام، كما عني بالصحة، عني بالطب سواء كان طبًا علاجيًا أم وقائيًا، وإن كانت عنايته بالوقائي أكثر؛ لما هو معلوم: إن درهم وقاية خير من قنطار علاج، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم جملة أحاديث تصف بعض الأدوية لبعض الأمراض.
وقد اهتم بها بعض العلماء ظانين أنها كلها جزء من الدين والوحي الإلهي، ولكن الواقع أن منها ما هو من خبرات البيئة ونتائجها، ومنها ما يليق ببيئة معينة في حرارتها ومناخها وظروفها كالبيئة الصحراوية العربية ولا يمكن أن يحمل على العموم لكل الناس، كما بين ذلك المحقق ابن القيم رحمه الله.
على أن هناك جانبًا هامًا يتعلق بالطب، يغفله الكثيرون ممن يروق لهم الحديث عن الطب النبوي أو الطب في الإسلام، ذلك هو الجانب التوجيهي الذي يتصل بمهمة الدين ووظيفة الرسول، فقد أدخلت الأديان الوثنية والمحرفة أفكارًا فاسدة، وخرافات باطلة، عوقت نمو الطب الصحيح، وأفسدت الانتفاع به ، فجاء نبي الإسلام ، فطارد تلك الأوهام، وصحح تلك الأغلاط، ووضع جملة من المبادئ الخالدة، تعد بحق حجر الأساس لقيام صرح مشيد لطب إنساني علمي سليم.
ومن هذه المبادئ المحمدية:
1- قرر قيمة البدن، وحقه على صاحبه، وسمع الناس لأول مرة في جو الدين "إن لبدنك عليك حقًا"؛ ومن حقه عليه أن يطعمه إذا جاع، ويريحه إذا تعب، وينظفه إذا اتسخ، وكذلك يداويه إذا مرض؛ هو حق واجب لا يجوز في نظر الإسلام أن ينسى ويهمل لحساب الحقوق الأخرى، ولو كان منها حق الله عز وجل.
2- حل مشكلة الإيمان بالقدر، الذي كان يعتقده المتدينون معارضًا للتداوي وطلب العلاج، ظانين أن عليهم الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء. روى الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي عن أبي خزامة قال:قلت: يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها ، فهل ترد من قدر الله شيئًا؟ قال: "هي من قدر الله"، وفي المسند: جاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ قال: نعم، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء.
وهذا هو الجواب الحاسم فإن الله قدر الأسباب والمسببات، وجعل من سننه في خلقه دفع قدر بقدر، فيدفع قدر الجوع بقدر الغذاء، ويدفع قدر العطش بقدر الشرب، والداء بالدواء، وكل من الدافع والمدفوع قدر الله، فإنه عليه السلام كان يفعل التداوي في نفسه، ويأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه، وفي الصحيح من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع له عرقًا وكواه عليه.
وحينما ذهب عمر إلى الشام وعلم قبل دخولها أن هناك طاعونًا شاور أصحابه في الرجوع واستقر الرأي على العودة بمن معه بعدًا بهم عن مواطن الخطر، فقال أبو عبيدة: أنفر من قدر الله يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة. نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله. أرأيت لو كان لك واديان أحدهما مخصب والآخر مجدب، أليس إن رعيت المخصب رعيته بقدر الله؟
3- أقر سنة الله في العدوى وأمر بالاحتراز والوقاية والعزل الصحي في الأوبئة العامة كالطاعون ونحوه، بل وسع دائرة الوقاية حتى شملت الحيوان الأعجم، وقال "لا يوردن مُمرِض على مصح" (رواه البخاري عن أبي هريرة) والممرض: الذي إبله مراض، والمصح: الذي إبله صحاح. ومعنى: لا يورد عليه: لا يخلط المريضة الجرباء بالصحيحة اثناء ورود الماء.
وفي مسلم: أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فقد بايعناك. وعند ابن ماجة: لا تديموا النظر إلى المجذومين. ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم: كلم المجذوم وبينك وبينه قدر رمح أو رمحين. وقال في شأن الطاعون -وهو وباء عام-: "إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا منه"؛ وهذا حصر للوباء في أضيق نطاق، أما حديث "لا عدوى" فهو صحيح رواه البخاري، ولكن معناه: أن الأمراض لا تعدي بطبعها وذاتها، كما يعتقد أهل الجاهلية، بل بتقدير الله تعالى، وبناء على سننه الكونية.
4- قاوم ما يسمى "بالطب الروحاني" واحترم الطب القائم على الملاحظة والتجربة والأسباب والمسببات، وأبطل ما أشاعته الوثنية الجاهلية عند العرب وغيرهم حتى أهل الكتاب من اطراح الأسباب الظاهرة والسنن الكونية، والاعتماد على الأسباب الخفية والقوى المجهولة من عزائم ورقى غير مفهومة، وشعوذة يروجها السحرة والدجالون.
روى الإمام أحمد عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: إن عبد الله إذا جاء من حاجة، فانتهى إلى الباب، تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه، قالت: وأنه جاء ذات يوم، فتنحنح، وعندي عجوز ترقيني من الحمرة، فأدخلتها تحت السرير.
قالت: فدخل فجلس إلى جانبي، فرأى في عنقي خيطًا فقال: ما هذا الخيط؟ قلت: خيط رقى لي فيه. فأخذه فقطعه ثم قال:إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك" (رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد جيد والحاكم وقال صحيح) قالت: قلت له: لم تقول هذا، وقد كانت عيني تقذف، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فكان إذا رقاها؟ سكنت؟ فقال: إنما ذاك من الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقاها كف عنها. إنما يكفيك أن تقولي كما قال: النبي صلى الله عليه وسلم: "أذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا".
وروى بسنده عن عيسى بن عبد الرحمن قال: دخلت على عبد الله بن حكيم وهو مريض، نعوده، فقيل له: لو تعلقت شيئًا (أي حجابًا أو خرزًا أو نحو ذلك) فقال: أتعلق شيئًا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلق شيئًا وكل إليه"، وروى عن عقبة بن عامر عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "من علق تميمة فقد أشرك".
وفي رواية "من علق تميمة فلا أتم الله له، ومن علق ودعة فلا ودع الله له" (رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم ) ووضع مبدءاً تشريعيًا بقطع الطريق على من يدعون الطب وليسوا من أهله "من تطبب ولم يعرف منه طب فهو ضامن" (رواه البخاري من حديث ابن عباس) .
وأما الرقى فهي دعاء وتضرع إلى الله، وليست بدواء، وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم الأدوية بحسب زمنه، فقال: الشفاء في ثلاث: شربة عسل وشرطة محجم، وكية بنار) ولم يعد منها الرقية أو ما يماثلها.
5- فتح باب الأمل على مصراعيه أمام الأطباء والمرضى معًا، في الشفاء من كل مرض، مهما طال واتصل وقضى على اليأس المحطم، وعلى ما يسمى بالأمراض المستعصية روى البخاري عن أبي هريرة: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء"، وروى مسلم وأحمد عن جابر "لكل داء دواء ، فإذا أصاب دواء الداء برئ بإذن الله تعالى"، وروى أحمد "أن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه، وجهله من جهله" قال الشوكاني فيه دليل على أنه لا بأس بالتداوي لمن كان به داء قد اعترف الأطباء بأنه لا دواء له، وأقروا بالعجز عنه .
وقال ابن القيم في "زاد المعاد":
في قوله صلى الله عليه وسلم: "لكل داء دواء" تقوية لنفس المريض والطبيب وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه، فإن المريض إذا شعرت نفسه أن لدائه دواء يزيد تعلق قلبه بروح الرجاء، وبرد من حرارة اليأس، وانفتح له باب الرجاء، ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية، وكان ذلك سببًا لقوة الأرواح الحيوية والنفسانية والطبيعية، ومتى قويت هذه الأرواح قويت القوى التي هي حاملة لها، فقهرت المرض ودفعته، وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه، وأمراض الأبدان على وزن أمراض القلوب وما جعل الله للقلب مرضًا إلا جعل له شفاء بضده، فإن علمه صاحب الداء واستعمله وصادف داء قلبه أبرأه بإذن الله تعالى (زاد المعادج3ص69) .
6- عني الإسلام بالصحة النفسية عناية فائقة "فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان" ولا ريب أن بين الناحية النفسية والناحية الجسمية تبادلا في التأثير، كلاهما يؤثر في الآخر قوة وضعفًا، وصحة وسقمًا، واعتدالا وانحرافًا، وقد أثبت ذلك علماء النفس وأطباء الجسم من قديم (يراجع "شفاء النفس" من سلسلة اقرأ) .
وقديمًا قالوا: العقل السليم في الجسم السليم. وعلق على ذلك برناردشو فقال: بل الجسم السليم في العقل السليم، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوة الروح وأثرها في قوة البدن حين كانوا يبنون المسجد، والصحابة يحملون حجرًا حجرًا، وعمار يحمل حجرين حجرين، فقال: "إن عمارًا مليء إيمانًا من قرنه إلى قدمه"، وأشار إليها مرة أخرى حين نهاهم عن الوصال في الصيام، فقالوا له: تنهانا عن الوصال وتواصل؟ قال: "وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" (رواه البخاري)، ومن مثله في قوة الروح حتى يحتمل ما يحتمله عليه السلام؟
والمؤمن أقوى الناس روحًا، وأصحهم نفسًا، فقد ملأ الإيمان ما بين جوانحه أمنًا وطمأنينة ورضًا وأملا وحبًا، وطهر نفسه من أدران الحقد والغل والحسد والبغضاء وأمراض القلوب الفتاكة، وإذا قيل: إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، فالحق أنه يأكل فوق ذلك: صحة الإنسان وأعصابه. وما أصدق القائل: لله در الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله، والقائل:
اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله ** النار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.
وفي الحديث "دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة"، والحسد داء اجتماعي ونفسي لا ريب، ومع هذا فهو داء جسماني أيضًا.
هذه هي المبادئ الخالدة التي أرسى الإسلام قواعدها، وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على تثبيتها، وهي جديرة -إذا روعيت وطبقت- أن تنشئ أجيالا من الأصحاء الأقوياء الذين لا ينتصر الدين ولا ترقى الدنيا إلا بهم. وبالله التوفيق.