السؤال: أنا شاب تزوجت منذ 8 سنوات ولم يرزقنا الله أطفالاً، ولم يكن هناك أي عائق بالنسبة لي وزوجتي وتعبت من ذهابنا إلى الأطباء والمستشفيات بسبب التأخير، وفي يوم من الأيام قمت صباحًا على صوت الأذان ووقفت خارج البيت ورفعت يدي إلى الله مستغيثًا وقلت نذر علي إذا حملت زوجتي أن أعمل حفلة لأصدقائي واستجاب الله إلى طلبي وحملت زوجتي. وقد قررت إقامة الحفلة. ولكن هناك بعض الأصدقاء أشاروا على ألا أقيمها إلا بعد الولادة ومنهم من أشار بإعطاء تكاليفها إلى الفقراء، ولكني لم أعمل الحفلة أو أوزع ثمنها إلى الفقراء، وقد وضعت زوجتي طفلة وكانت في غاية من الصحة، إلا أنه لم يمض على ولادتها أكثر من خمسة عشر يومًا حتى أخذت الطفلة تفقد من صحتها وتشعر بألم شديد وقد ذهبت بها إلى المستشفى حيث أدخلت ولكن مشيئة الله هي أقوى من كل علاج وأخيرًا اختارها الله إلى جواره.
أودّ الاستفسار هل الطفلة توفيت بسبب عدم تنفيذ النذر قبل ولادتها أم لا ؟ وأنا لا أزال عازمًا على تنفيذ هذا النذر من كل قلبي. وهل النذر لا يزال ساري المفعول بعد موتها ؟
أرشدني حتى أسير على إرشاداتك ولكم جزيل الشكر.
جواب العلامة الدكتور يوسف القرضاوي:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عوضك الله خيرًا من ابنتك، وجعلها في ميزانك يوم القيامة.
وأما موت البنت فهو قضاء الله الذي لا راد له، ولا معقب لحكمه، ولكل حي أجل، فإذا انقضى فلا مجال لإمهال أو تأخير، كما قال تعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
وليس هناك علاقة سببية بين الموت وبين عدم الوفاء بالنذر، فالموت ظاهرة طبيعية، مبنيّة على سنن وأسباب، منها ما نعلمه، ومنها ما لا يعلمه إلا الله (وما يعمر من معمر، ولا ينقص من عمره إلا في الكتاب) (فاطر: 11).
وأما النذر الذي جعلته لله على نفسك فقد لزمك الوفاء به، فإن الله تعالى قد أمر بالوفاء بالنذور، فقال تعالى: (وليوفوا نذورهم) (الحج: 29) وأثنى على عباده الأبرار فقال سبحانه: (يوفون بالنذر، ويخافون يومًا كان شره مستطيرًا) (الإنسان: 7) وذمَّ الذين ينذرون و لا يوفون، فقال جل شأنه: (ومنهم من عاهد الله: لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين . فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون . فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) (التوبة: 75، 76). والخطاب عن المنافقين.
وروى أبو داود أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف - تغني إظهارًا للفرحة والبهجة - فقال لها: "أوفي بنذرك " . وموت البنت بعد ذلك لا يسقط وجوب الوفاء بالنذر؛ لأن النذر لم يكن معلقًا على حياتها، بل على حمل الزوجة بها، وقد حملت، وتم الحمل حتى وضعت، وعاشت بعد الوضع أيامًا.
وكان الأولى بالأخ السائل أن يبادر بالوفاء بمجرد علمه بالحمل، فإن خير البر عاجله.
بقيت هنا فائدتان في موضوع النذر أود أن أنبه عليهما:
الأولى: أن إنشاء النذر والالتزام به مكروه عند كثير من العلماء، ولو كان المنذور عبادة كالصلاة والصيام والصدقة.
والدليل على ذلك ما رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن ابن عمر قال: نهى رسول الله عن النذر، وقال: " إنه لا يرد شيئًا، وإنما يستخرج به من البخيل ". وفي رواية: " النذر لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل ".
والحكمة في الكراهية: خشية أن يعتقد بعض الناس أنه يرد القدر، أو يظن أن النذر يوجب حصول غرضه الخاص . أو يحسب أن الله يحقق له غرضه من أجل ذلك النذر، ولهذا قال في الحديث: " إن النذر لا يرد شيئًا، أو لا يأتي بخير ".
وهناك خطر آخر يتمثل في نذر المجازاة: كقوله: إن رزقني الله ذكرًا، أو إن شفى الله ولدي، أو إن ربحت تجارتي لأتصدقن على الفقراء، أو لأنشئن مسجدًا أو نحو ذلك . ومعنى ذلك: أنه رتب فعل القربة المذكورة من الصدقة أو بناء المسجد على حصول غرضه الشخصي، فإذا لم يحصل غرضه لم يتصدق، ولم يبن المسجد.
وهذا يدل على أن نيته في التقرب إلى الله لم تكن خالصة ولا متمحضة، فحالته في الحقيقة هي حالة البخيل الذي لا يخرج من ماله شيئًا إلا بعوض يزيد على ما غرمه .
ولهذا قال في الحديث: " إنما يستخرج به من البخيل". وسر ثالث في كراهة الالتزام بالنذر، وهو ما فيه من تضييق على النفس، وإلزامها بما كان لها عنه مندوحة، وقد يغلبه الكسل أو الشح أو الهوى فلا يفي به، وقد يؤديه كارهًا مستثقلاً له بعد أن لم يعد له خيار في شأنه.
ومهما يكن من تعليل القول بكراهة النذر فإن الإجماع قائم على أن الوفاء به واجب وقد جاء الكتاب والسنة بذم الذين ينذرون ولا يوفون.
الفائدة الثانية: أن الوضع الصحيح للنذر أن يكون بما فيه قربة إلى الله كالصدقة والصلاة والصيام وعمل الخيرات ونحو ذلك.
ولهذا جاء في الحديث: " لا نذر إلا فيما ابتغى به وجه الله تعالى " رواه أحمد وأبو داود.
ولهذا يرى بعض الأئمة: أن النذر إذا لم يكن بقربة لا يعد نذرًا، كما إذا نذر أن يفعل شيئًا مباحًا.
ومن هنا كان الأولى بصاحب السؤال أن ينذر الصدقة على الفقراء ونحو ذلك بدلاً من إقامة حفلة للأصدقاء على أن حفلة الأصدقاء يمكن أن تكون قربة إذا كانت صداقتهم لله، وحبهم في الله، وقصد بهذه الحفلة تقوية الرابطة الدينية، وتوثيق عرا المحبة في ذات الله تعالى . انتهى نقلا عن كتاب فتاوى معاصرة لفضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي
والله أعلم