البيت العتيق |
السؤال: هل كان هناك إسلام قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وما معنى الآية الكريمة: "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (آل عمران:67) وهل ذلك الإسلام هو مثل إسلامنا الحالي، أم يختلف عنه؟
جواب العلامة الدكتور يوسف القرضاوي:
بسم الله ، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد:
الإسلام هو أن تسلم وجهك وقلبك لله عز وجل. أي أن تعبد الله وحده مخلصا له الدين.
وهذا المعنى. قد بعث الله به الأنبياء جميعا، وأنزل به الكتب كافة، الإسلام بهذا المعنى توحيد الله سبحانه، وإفراده جل شأنه بالعبادة، فهو دين الأنبياء جميعا، لا دين غيره، وكل ما عداه من أديان، فهو ليس من السماء، ولم ينزل الله به كتابا ولا بعث به نبيا أو أرسل رسولا.
دين الأنبياء هو الإسلام بهذا المعنى ولهذا يقول الله تعالى مخاطبا رسوله: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء:25) فكل الأنبياء جاءوا بأصل هذه الدعوة: عبادة الله، واجتناب الطاغوت. ومن هنا يقول الله تعالى: "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ" (آل عمران:19) فلا دين عند الله غيره.
ويقول: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (آل عمران:85) ومن هنا نجد نوحا عليه السلام شيخ المرسلين يقول لقومه: "فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (يونس:72). وإبراهيم "إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (البقرة:131-132) وموسى يقول لقومه: "يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ" (يونس:84) والحواريون أصحاب عيسى يقولون: "آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" (آل عمران:52)
وسحرة فرعون حين آمنوا قالوا: "رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا ۚ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ" (الأعراف:126)
وسليمان حين بعث لبلقيس قال لها بعد البسملة " أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ" (النمل:31)
فالإسلام دين الأنبياء جميعا فكلهم دعوا إلى الإسلام، واعترفوا بالإسلام. والإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتمة هذه الأديان. جاء ليكملها ويتممها، ويصحح ما حدث فيها من انحراف و زيادات أو من شوائب. يخلصها ويكملها كما قال عليه الصلاة والسلام (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)(رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والحاكم والبيهقي في الشعب). فهو بعث متمما ومصدقا لما بين يديه من الكتب ومهيمنا عليها جميعا ومصححا لها.
فهذا هو دين الأنبياء جميعا. ومن العجب أن يقال عن إبراهيم عليه السلام أنه يهودي أو نصراني " مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (آل عمران:67). إنه صاحب الملة الحنيفية السمحة. وإبراهيم عليه السلام هو الذي سمانا مسلمين. فلهذا لا ينسب لأية ديانة ذات عنوان خاص، ذلك لأن الله عز وجل ما شاء أن يطلق على هذا الدين إلا الإسلام، هذا الاسم للدين السماوي الأصلي، الذي أنزله الله لهداية عباده. وأرسل به رسله… ولم يسمه الله ولا المسلمون باسم "المحمدية" مثلا كما هو شأن "المسيحية" المنسوبة إلى المسيح عليه السلام… فهو الدين الإسلامي العام الذي اشترك فيه الأنبياء جميعا: "شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ" (الشورى:13).
فالإسلام إذن هو مجموع العقائد وأمهات الأخلاق والفضائل التي جاء بها الأنبياء جميعا، وأصول المحرمات التي نهى عنها الأنبياء جميعا.
ثم هناك أشياء اختلفت فيها الديانات وهي التشريعات الفرعية التفصيلية التي تعالج حياة الناس. فهذه اختلفت باختلاف الأعصار والأزمان والبيئات والأجيال، كما قال الله تعالى: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا" (المائدة:48) ولهذا كان في بعض الشرائع أشياء محرمة تحلها شرائع أخرى، كما جاء مثل ذلك عن المسيح عليه السلام، حيث يقول القرآن عن المسيح: "وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ" (آل عمران:50)
وجاءت شريعة الإسلام هي الناسخة للشرائع جميعا، وأبقت منها ما يصلح، وأزالت ما حرف وأتمت ما نقص، وشرعت الشريعة العامة الخالدة الصالحة المصلحة لكل زمان ومكان.