د. يوسف القرضاوي
من التبريرات التي جدت على الساحة اليوم: ما يقال من أن الحكمة في تحريم الربا لم تعد قائمة اليوم. فالحكمة هي منع ظلم الدائن للمدين أو المقرض للمقترض واستغلال حاجته بفرض الزيادة الربوية عليه...
وهذا بخلاف البنك الحديث الذي يعطيه الناس أموالهم ليستثمرها، فالبنك المقترض هو القوي، والمقرض هنا هو الضعيف ممن يملك المائة والمائتين، أو الألف والألفين، وهو يستغل هذه الأموال في التجارة والصناعة وغيرها من ألوان الاستثمار. بعد دراسة الجدوى والاحتمالات، حتى لا يتعرض للخسارة، فإن خسرت صفقة عوضتها صفقات أخرى رابحة، ولو خسرت كلها عوضها البنك المركزي! والرد على هذا كله يسير.
أولاً: لأن الأصل المطرد الغالب: أن نبني الأحكام الشرعية على العلة لا على الحكمة؛ لأن العلة هي الوصف الظاهر المنضبط الذي يكون علامة واضحة على الحكم بخلاف الحكمة التي لا تنضبط، وقد تختلف أفهام الناس وتضطرب في تحديد الحكمة. فلا يتفقون على شيء.
ثانياً: هب أننا بنينا الحكم على الحكمة لا على العلة، كما يرى بعض العلماء، فيجب أن تكون الحكمة جامعة مانعة، تستوعب كل الصور ولا تقصر عن بعضها.
وحصر الحكمة في استغلال المقرض الغني للمقترض الفقير الذي يأخذ القرض لحاجته وقوته وقوت عياله حصر غير صحيح، وقد، رددنا عليه بالأدلة الناصعة.
إن الحكمة هي: أن المال لا يلد المال بذاته، والنقود لا تلد نقوداً. إنما ينمو المال بالعمل وبذل الجهد. والإسلام لا يحرم على الناس أن يملكوا المال، ويستكثروا منه، ما دام يؤخذ من حله، وينفق في حقه. ولم يقل الإسلام ما قاله الإنجيل: لا يدخل الغني ملكوت السموات حتى يدخل الجمل في سم الخياط. بل قال: "نعم المال الصالح للمرء الصالح". رواه أحمد والحاكم بسند جيد. والمال الصالح هو الذي يكتسب من حلال، وينمى بالحلال. أي بالعمل النافع المشروع، إما بنفسه أو بمشاركة غيره. وبهذا شرع الإسلام تعاون رأس المال والعمل لمصلحة الطرفين ومصلحة المجتمع أيضاً. ومقتضى هذه المشاركة أن يتحمل الطرفان النتيجة، أياً كانت، ربحاً أو خسارة. فإن كان الربح كثيراً، كان بينهما على ما اتفقا عليه. وإن قل الربح قل نصيبهما معاً بنفس النسبة. وإن كانت الخسارة أصابت كلا منهما: رب المال في ماله، والعامل في جهده وتعبه. هذا هو العدل الكامل: الغرم بالغنم، والخراج بالضمان.
إن بعض البنوك في بعض الأقطار وزعت على مساهميها أرباحاً بلغت 50%، فلماذا يعطى المتعامل معها 10% فقط؟
وقد يحدث العكس في بعض الأقطار وفي بعض المراحل، فلماذا لا يقل نصيب العميل؟ إن الحكمة الواضحة في تحريم الربا هي تحقيق الاشتراك العادل بين المال والعمل، وتحمل المخاطرة ونتائجها بشجاعة ومسؤولية. وهذا هو عدل الإسلام. فلم يتحيز إلى العمل ضد رأس المال ولا إلى رأس المال ضد العمل، لأنه يمثل عدل الله الذي لا ينحاز إلى فريق ضد فريق.
---------------
- من كتاب "فوائد البنوك هي الربا الحرام" لفضيلة الشيخ.