- ما المقصود بالشذوذ في الفتوى، أو الفتوى الشاذة، ما معنى ذلك؟ وهل الشذوذ مجرد خروج عن القواعد وليس مجرد انفراد عن آراء العلماء، فلو معه دليل مثلا لا يعد شذوذًا؟ وهل الفتوى التي ينظر إليها على أنها فتوى شاذة، هذا الشذوذ يمكن أن يتغير بتغير الحال، أو المكان، أو العرف، أو العادات؟ وهل الفتاوى الشاذة ترتبط بمن يتصدرون للفتوى بغير علم، أم أنها كذلك تصدر من إمام عالم أومجتهد؟

سُئل الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي هذه الأسئلة في برنامج "فقه الحياة"، الذي أذيع على قناة "أنا" في رمضان 1430هـ، الموافق لسنة 2009 م؛ فأجاب:

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولا: المقصود بالشذوذ في الفتوى:

المقصود بذلك أن يصدر المفتي فتوى لاتقوم على أصل، أو لا تقع موقعها، فلم تستدل بالدليل الصحيح الذي يدل على الحكم الذي يريده، فتكون بذلك: شذت أي انفردت بطريق وحدها، وليست سائرة على النهج المستقيم الذي يسلكه العلماء، فهذا نسميه شذوذ مثل "إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية"، أي التي تشرد لوحدها عن القطيع، والشذوذ معروف حتى في اللغة، فنقول هذه لغة شاذة، وكذلك هناك شذوذ في القراءات، فنقول هذه قراءة شاذة، وشذوذ في الأقوال، فنقول هذاقول شاذ، بمعنى لم يسر على القاعدة البينة الأساسية وانفرد وحده.

ثانيا: هل يكون الانفراد المدعوم بالدليل شذوذا؟

هناك من العلماء من انفرد بآراء لم يقلها العلماء الآخرون، والصحابة بعضهم انفرد، ابن عباس انفرد بآراء، وابن مسعود انفرد بآراء، ولما جاء الإمام مالك وكلفه أبو جعفر المنصور بتأليف الموطأ، قال له: تجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر، وشواذ ابن مسعود، وحتى الصحابة يمكن أن يشذ أحدهم برأي. والإمام أحمد له آراء انفرد بها، سموها المفردات، وهذا لم يضرالإمام أحمد؛ لأنه له أدلته التي يعتمد عليها.

ثالثا: هل الشذوذ أمر نسبي يتغير بتغير الزمان والمكان؟

نعم، وهذا يحدث فعلاً، وفي التاريخ رأينا أقوالاً تعتبر في زمانها شاذة؛ لأنها سبقت عصرها، ثم جاء زمن آخر فأقرها ومن أشهر الفتاوى التي اعتبرت شاذة في عصرها، ثم تم ترجيحها بعد ذلك فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم، حول قضايا الأسرة والطلاق، مثل الطلاق الذي يراد به الحمل على شيء أو المنع منه، والطلاق الذي يراد به اليمين، والطلاق المعلق، والطلاق الثلاث بلفظة واحدة، والطلاق البدعي، وطلاق المرأة الحائض، أو المرأة التي مسها زوجها في هذا الطهر.

وهذا الفتاوى حوكم من أجلها ابن تيمية، وخالفه علماء عصره، واعتبروا أنه خرق الإجماع، ودخل من أجلها السجن، ومات ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في السجن من أجل هذا، لكن هذا القول الذي اعتبر شاذًا تبناه أكثرالعلماء في عصرنا، وتبنته لجان الفتوى، وتبنته قوانين الأحوال الشخصية في أكثر من بلد، واعتبر هو سبيل الإنقاذ، أو سفينة الإنقاذ للأسرة المسلمة؛ لأن أحيانًا شخصًا يعيش مع أسرته في انسجام ومودة، لكنه غضب من واحد في السوق أو في مكان العمل، وحصلت ثورة وهياج وحلف بالطلاق بالثلاثة أنه يعمل كذا أو يعمل كذا، فهل يرجع بيته ليجد امرأته طلقت بالثلاث، أي طلاقًا بائنًا بينونة كبرى، فلا تحل له حتى تنكح زوجًاغيره، فجاء ابن تيمية ورفض هذا.

رابعا: هل الفتاوى الشاذة ترتبط بمن يتصدرون للفتوى بغير علم، أم أنها كذلك تصدر من إمام عالم أومجتهد؟

يمكن أن تصدر فتاوى شاذة من عالم مجتهد؛ لأن العالم المجتهد ليس معصومًا، ولكن هذه لا تسقط منزلة العالم، وابن تيمية قال إن العالم المكثر للفتاوى يمكن أن يقع في خطأ في فتويين وثلاث وأربع، وهذا مغمورٌ في بحر علمه، فإذا بلغ الماء قُلتين لم يحمل الخبث، ولكن بالنسبة للعالم المتمكن الثقة من الناس، لا نحكم عليه بالشذوذ بسهولة، فلابد أن نتأنى ونتوقف حينما نحكم على فتواه بالشذوذ.

والله أعلم.