الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله تتنزل الخيرات، وبتوفيقه تتحقق الغايات، الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وأزكى صلوات الله وتسليماته على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، البشير النذير، والسراج المنير، الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم إلى صراط الله المستقيم، ومَنَّ به على المؤمنين، ليتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. ورضي الله عن آله وصحبه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، وعمن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. (أما بعد)
فلم يكن في نيتي ولا في تفكيري إلى وقت قريب: أن أكتب شيئا خاصا عن حياتي، وسيرتي ومسيرتي، وذلك لعدة أسباب:
أولا: أن كتابة السيرة والمسيرة إنما هي من الحديث عن النفس، والحديث عن النفس لا بد أن يتضمن لونا ما من تزكية النفس، وتمجيد الذات، وتزيينها في أعين القراء، وهو أمر مذموم شرعا وخلقا. والله تعالى يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم:32) ويتحدث عن اليهود في معرض الذم فيقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (النساء:49) وقد سئل أحد الحكماء: ما الصدق القبيح؟ فقال: ثناء المرء على نفسه. أي وإن كان ثناؤه في ذاته حقا وصدقا.
إن كلمة (أنا) حين تصدر من المخلوق: كلمة بغيضة، وأول من قالها شر الخلق إبليس. قالها في معرض الرفض والتحدي والاستكبار، حين أمره الله بالسجود لآدم، فأبى واستكبر، وقال {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}(الأعراف:12) كانت (أنا) الإبليسية أول كلمة في تمجيد الذات عبر بها مخلوق شرير عن نفسه أمام ربه. مع أنه اعترف بخلقه له (خلقتني من نار) فما دمت مخلوقا فلم تتمرد على خالقك؟ ولماذا تعجب بنفسك، وتنسى فضل ربك؟!
ولهذا حذر أهل السلوك من (العُجْب) واعتبروا الإعجاب بالنفس من المهلكات، كالشح المطاع، والهوى المتبع. بل إن العامة عندنا يقولون: لا يمدح نفسه إلا إبليس. أخذوا هذا القول من القرآن.
إن (أنا) المعجبة المغرورة يجب أن تختفي فيما يقوله الدعاة إلى الله بألسنتهم، أو فيما يخطونه بأقلامهم، فليس هناك إلا (أنا) واحدة هي التي تصدر من الربوبية الخالقة والحاكمة لهذا الكون، والتي تتجلى في مثل قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:25) وقوله تعالى لنبيه وكليمه موسى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} (طه:13-14) والسيرة الذاتية تضطر الإنسان أن يقول: أنا فعلت، وأنا قلت، وأنا سويت.
ثانيا: أني لست من زعماء السياسة، الذين يجد الناس في حياتهم (مطبات) خطيرة، أو أسرارا رهيبة، أو مفاجآت تروعهم، وأحداثا غريبة تذهلهم، فالواقع أن حياتي ليس فيها مفاجآت مذهلة، ولا وقائع خارقة، إنما هي حياة عادية، تمضي على سنن الله المعتادة، ومعظم ما فيها من محطات انتقال من مرحلة إلى أخرى، إنما صنعها القدر الأعلى لي، ولم أصنعها لنفسي. وأعتقد أن ما اختاره الله لي هو خير مما كنت اختاره لنفسي لو خيرت. وأحمد الله على ما انتهيت إليه، وأدعوه تعالى أن يجعل يومي خيرا من أمسي، وغدي خيرا من يومي، وأن يجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاه.
ثالثا: أني لم أكتب شيئا مما مر بي من أحداث في حينه، ولم أسطر أي ذكريات، وكثيرا ما طلب مني بعض الإخوة القريبين مني أن أسجل مذكرات عن رحلاتي المختلفة في أنحاء العالم، فلم ينشرح صدري لذلك.
وعلى هذا الأساس سأعتمد فيما أكتب على ذاكرتي لا على مذكراتي. فلست مثل الإمام أبي الحسن الندوي، الذي كان يسجل كل فقرة من حياته، ثم جمعها بعد ذلك وأضاف إليها (مسيرة الحياة) في ثلاثة أجزاء.
وإذا كانت الذاكرة هي المصدر الأول، فالذاكرة قد تخون الإنسان، والحزم أن يدع الإنسان ما لا يستقينه مائة في المائة.
هذه هي الأسباب التي أبعدت عن ذهني التفكير في كتابة مسيرة الحياة. مكتفيا بالحوارات التي أجراها معي بعض الإخوة من الصحفيين ومن غيرهم. مثل ما أجراه معي الأخ الدكتور حسن علي دَبَا منذ سنوات، ونشر جزءا منه في مجلة (الأهرام العربي) في القاهرة. وقبل ذلك الأخ الصحفي مجاهد خلف، ونشره في جريدة (الشرق القطرية) في أحد الرمضانات.
وكذلك ما أخذه مني الأخ عصام تَلِّيمة سكرتيري الخاص، ولم ينشره بعد.
ولكن إخوة أحبة ممن أعتز بهم وأقدرهم، وأشعر بخالص مودتهم: طلبوا مني، وألحوا علي في الطلب أن أكتب هذه المسيرة بقلمي، وزعموا أن فيها خيرا كثيرا للقراء، وخصوصا للأجيال الواعدة الصاعدة من أبناء الأمة، وأنهم- على رغم فكرتي عن نفسي -يجدون في سيرتي ومسيرتي ما يستحق التسجيل والرصد والنشر، ليتخذ منه الناس عبرة، ويتخذ منه الشباب حافزا للعمل، وباعثا للأمل. وقالوا: إنك إذا لم تكتبها بقلمك سيحاول الآخرون أن يكتبوها، ولن تكون مثل كتابتك أنت.
وفي العام الماضي كنت ألقي محاضرة في مركز الدراسات الدولي بالقاهرة عن: (المسلمون والعولمة)، وبعد المحاضرة علق عدد من الحاضرين، وكان منهم الأخ الكريم الباحث الداعية الأديب الناقد، الأستاذ الدكتور جابر قميحة أستاذ الأدب العربي في جامعة عين شمس، فناشدني الله، وشدد المناشدة أن أكتب سيرتي بيدي وقلمي، وأني بمجرد أن أمسك بالقلم سيفتح الله علي، وأكد هذه الرغبة إخوة كثيرون من أقطار شتى.
وسبحان مقلب القلوب، فمنذ وقت قريب شرح الله صدري للكتابة، وقلت: أبدأ على بركة الله، معتمدا على ما أستيقنه مما أتذكره، وما لم أستيقنه أستبعده أو أذكره على التشكيك، أداء للأمانة، محاولا أن أكون موضوعيا ما استطعت، لأني أكتب سيرة ذاتية، فكيف يكون الذاتي موضوعيا؟ وكيف يكون الإنسان محايدا مع نفسه؟
هذا يحتاج إلى نفس انتصرت على هواها، واستعلت على رغباتها، وفنيت عن ذاتها، وأنا لا أدعي أني وصلت إلى هذه الدرجة، ولكني سأجتهد ما استطعت أن أقول الحق، وأتحرى الصدق، وأكون قواما بالقسط شهيدا لله ولو على نفسي، وألا يجرمني شنآن قوم على ألا أعدل، مستعينا بالله تعالى، معتصما بحبله، لائذا بجنابه، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.
وسيجد القارئ الكريم الجزء الأول من حياتي أكثر إسهابا من الأجزاء الأخرى، لأني أتذكر هذا الجزء بتفاصيله جيدا، بخلاف الأجزاء الأخيرة رغم قرب زمانها، ولكن الذاكرة في الأخير قد شاخت، ولم تعد كما كانت في الزمن الماضي.
كما أني أحاول أن أركز على الإيجابيات، لتحسن القدوة بها والأسوة فيها، ومع هذا لا أغفل السلبيات، بل أذكرها لنأخذ منها العبرة، ولئلا نقع في مثلها، ولكي نكون منصفين مع أنفسنا، ومع الأجيال القادمة بعدنا، فإنما نحن بشر غير معصومين، نجتهد في خدمة الإسلام، ونصرة قضاياه، وربما كان اجتهادنا خاطئا، ومع هذا فنحن معذورون، بل مأجورون أجرا واحدا، كما صح في الحديث. فلا يضرنا أن نعمل ونخطئ، بل يضرنا أن نتقاعس ونقعد، وقد رفع الله الجناح عن المخطئين ولم يرفعه عن القاعدين. قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (الأحزاب:5).
لكنه سبحانه لم يعذر القاعدين المتخلفين، قال تعالى في شأن المنافقين: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} (التوبة:56-57)
هذا وأرجو من الإخوة الذين كان ينبغي أن تذكر أسماؤهم في بعض المواقف أن يسامحوني إذا أغفلتهم، فلست بمؤرخ يستقصي. ثم إني أعتمد على الذاكرة، وهي غير مأمونة على التفاصيل.
كما أرجو من الإخوة الذين كانت لهم مشاركة في بعض الأحداث التي ذكرتها: أن يصححوني إذا أخطأت.
وأستغفر الله سبحانه من كل خطأ أو تجاوز أو إعجاب بالنفس، فما أنا إلا بشر يخطئ ويصيب، فما كان من صواب فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان.
{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة:286).
الفقير إلى عفو ربه يوسف القرضاوي
آب (أغسطس) 2001م