شدد الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على أن الدين الإسلامي يعتبر "الأمن من أعظم نعم الله على الإنسان"، جاء ذلك فى بيان له صدر الأحد 24-7-2005 عقب التفجيرات الدامية الأخيرة التي وقعت داخل وخارج العالم الإسلامي معرباً عن صدمته من جراء ما وقع، وواصفاً القائمين عليها بأنهم ينتهجون "شريعة الظالمين".

وطالب القرضاوي فى هذا السياق بإطلاق القائم بالأعمال الجزائري الذي اختطف مؤخرا في العراق، داعياً إلى حشد الجهود من أجل إطلاق "مصالحة بين الشعوب والأنظمة الحاكمة في العالم العربي، وإلى مقاومة المظالم التي تقع على المسلمين "بالوسائل المشروعة".

وقال القرضاوي في بيانه: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين "هاله ما يقع من تفجيرات وأحداث دامية داخل العالم الإسلامي وخارجه كالذي حدث في مصر (شرم الشيخ) وفي لندن وفي تركيا وفي غيرها مما ذهب ضحيتَه أعداد غفيرة من المدنيين الأبرياء الآمنين الذين سُفكت دماؤهم بغير جرم اقترفوه".

وشدد على أن "الأديان السماوية كلها والإسلام بصفة خاصة تؤكد احترام حق الحياة الإنسانية، وتحرم أشد التحريم الاعتداء عليها، وتقرر بكل وضوح أن الأصل في الدماء العصمة والحرمة إلا من أهدرها بإجرام أو فساد في الأرض"، مستشهدا بالحديث الشريف: "المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم".

وتابع قائلا: "إن شريعة الإسلام كما تحرّم قتل الأبرياء المدنيين تحرّم ترويع الآمنين، وتخويف المسالمين؛ لأن حق الإنسان شرعا أن يصبح ويمسي آمنا على نفسه وأهله وماله ودينه، وسائر حرماته وخصوصياته، ويعتبر الإسلام الأمن من أعظم نعم الله على الإنسان، والاعتداء عليه مما يوجب سخط الله في الآخرة، وعقوبته في الدنيا".

الإسلام يبرأ من المحرفين والمنحرفين

وأوضح الشيخ القرضاوي في بيانه أن الإسلام "يبرأ وشريعته ودعوته من عمل بعض المحرفين والمنحرفين ممن ينتسبون إليه، الذين يعاقبون شعوبا بظلم حكامها فيما زعموا".

وتابع قائلا: "فلا يجوز أن يؤخذ البريء بذنب المسيء، وأن تُعاقب الجماعة بجرم بعض أفرادها؛ فمعاقبة البريء بالمسيء نهج الظالمين وليس شريعة المؤمنين".

وأكد على أن "الواقع ينطق بأن الذين يسقطون ضحايا لهذه الجرائم هم أبناء هذه الشعوب المسالمون" مثلما حدث في تفجيرات شرم الشيخ وتفجيرات لندن.

ودعا الشيخ القرضاوي في هذا الإطار "إلى تجميع كل القوى والمصالحة بين الشعوب والأنظمة الحاكمة لنقف جميعا ضد التحديات الهائلة المفروضة على الأمة".

وعن استهداف السياح الذين يزورون البلاد الإسلامية، قال القرضاوي: هؤلاء لهم "عهد مؤقت" مع المسلمين مثل العهد الدائم لـ"أهل الذمة" مع المسلمين.

وأوضح أن هذا العهد المؤقت يسري على كل "من يدخل بلاد المسلمين بأمان من الدولة أو من عند الجهات المعتمدة كشركات السياحة أو غيرها، حتى إن الإسلام ليحترم أمان الأفراد إذا أعطوه، ولا يجيز إهداره وعدم اعتباره، ومن هنا يعتبر إعطاؤنا تأشيرة الدخول لكل سائح نوعا من الأمان أو العهد المعطى لهذا السائح؛ فلا يجوز الاعتداء عليه بحال من الأحوال".

"نقاوم المظالم بوسائلنا المشروعة"

وبين القرضاوي أن إدانته للتفجيرات والأعمال التدميرية "لا يعني أننا نبرر ما يقع على المسلمين من المظالم في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من بلاد الإسلام، ولكننا نقاوم هذه المظالم بوسائلنا المشروعة، ولا نبرر بسببها الأعمال الإجرامية بحال من الأحوال".

كما طالب بإطلاق القائم بالأعمال الجزائري في العراق علي بلعروسي الذي تبني تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين السبت 23-7-2005 مسؤولية اختطافه.

ونوه الشيخ القرضاوي في ختام بيانه إلى أنه يكتبه وهو "على فراش المرض استجابة لما أخذه الله من ميثاق على أهل العلم أن يبينوا للناس الحق ولا يكتموه".

وفيما يلى نص بيان الشيخ القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم أجمعين، ومن اتّبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد..

فإن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين -وقد هاله ما يقع من تفجيرات، وأحداث دامية داخل العالم الإسلامي وخارجه، كالذي حدث في مصر، وفى لندن، وفي تركيا، وفي غيرها، مما ذهب ضحيته أعدادٌ غفيرة من المدنيين الأبرياء الآمنين، الذين سُفكت دماؤهم بغير جرم اقترفوه- ليقرّر للأمة الإسلامية خاصة، وللبشرية عامة الحقائق التالية:

أولا: إن الأديان السماوية كلها، والإسلام بصفة خاصة تؤكد احترام حق الحياة الإنسانية، وتحرّم أشد التحريم الاعتداء عليها، وتقرّر بكل وضوح أن الأصل في الدماء العصمة والحرمة، إلا من أهدرها بإجرام، أو إفساد في الأرض، أو عدوان على حياة الآخرين. كما قرر القرآن الكريم مع كتب السماء: )أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا( (المائدة:31).

ثانيا: إن الإسلام يعتبر جريمة القتل أو الاعتداء على الحياة من أكبر الكبائر والآثام عند الله، توجب لعنته وغضبه وعذابه في الآخرة، كما توجب القصاص في الدنيا، سواء كان القتل لمسلم أم غير مسلم، يقول تعالى: )وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا( (النساء: 93). وهذا الوعيد الإلهي الشديد لمن يقتل مؤمنا يشمل قتل مَن نطق بالشهادتين، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد حين قتل في إحدى المعارك رجلا نطق بالشهادتين وقال له: "أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟!"، قال: إنما قالها تعوذا من السيف! قال: "هلا شققت عن قلبه؟!"، فالأصل أن يُعامل الناس بظاهر إسلامهم.

ومثل هذا من كان له عهد مع المسلمين، سواء كان عهدا دائما، مثل من يسميهم الفقهاء "أهل الذمة" الذين لهم عهد الله وعهد رسوله، وعهد جماعة المسلمين، ويعتبرهم جميع الفقهاء من "أهل دار الإسلام"، أي من المواطنين الذين لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.

أو كان عهدا مؤقتا، مثل كل مَن يدخل بلاد المسلمين بأمان من الدولة، أو من عند الجهات المعتمدة كشركات السياحة، أو غيرها، حتى إن الإسلام ليحترم أمان الأفراد إذا أعطوه، ولا يجيز إهداره وعدم اعتباره.

ومن هنا يعتبر إعطاؤنا تأشيرة الدخول لكل سائح نوعا من الأمان أو العهد المعطى لهذا السائح؛ فلا يجوز الاعتداء عليه بحال من الأحوال، وفى هذا يقول عليه الصلاة والسلام: "من قتل معَاهدا لم يرح رائحة الجنة" رواه البخاري.

ثالثا: إن شريعة الإسلام كما تحرّم قتل الأبرياء المدنيين تحرّم ترويع الآمنين، وتخويف المسالمين؛ لأن حق الإنسان شرعا أن يصبح ويمسي آمنا على نفسه وأهله وماله ودينه، وسائر حرماته وخصوصياته، ويعتبر الإسلام الأمن من أعظم نعم الله على الإنسان، والاعتداء عليه مما يوجب سخط الله في الآخرة، وعقوبته في الدنيا؛ ولهذا شدّد في عقوبة جرائم السرقة وقطع الطريق؛ لما فيها من تهديد أمن الناس.

ولم يجز الإسلام ترويع المسلم وتفزيعه ولو كان على سبيل المداعبة والمزاح، وقد منع الرسول الكريم ذلك في أحد الأسفار، فقال لمن فزّع أخاه: "لا يحل لمسلم أن يروّع مسلما"، وقوله: "أن يروع مسلما" لأن الواقعة التي سيق فيها الحديث كانت بين مسلم ومسلم، وإلا فالأصل ما جاء به الحديث الآخر "المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم".

رابعا: إن شريعة الإسلام في قواعدها وأحكامها تقرر بصراحة لا شبهة فيها أن الإنسان مسئول عن عمله هو، وعن سيئاته وجرائمه وحده، وليس مسئولا عن ذنب غيره إلا بمقدار مشاركته فيه، يقول الله تعالى: )وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى( (الأنعام: 164). بل يقرر القرآن أن هذا ما اتفقت عليه كتب السماء )أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى* أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( (النجم: 35- 38).

فلا يجوز أن يؤخذ البريء بذنب المسيء، وأن تُعاقب الجماعة بجرم بعض أفرادها فمعاقبة البريء بالمسيء نهج الظالمين وليس شريعة المؤمنين.

ولذا يبرأ الإسلام وشريعته ودعوته من عمل بعض المحرّفين والمنحرفين ممن ينتسبون إليه، الذين يعاقبون شعوبا بظلم حكامها فيما زعموا.

والواقع ينطق بأن الذين يسقطون ضحايا لهذه الجرائم هم أبناء هذه الشعوب المسالمون، مثل الذين قُتلوا في لندن من الساعين على معاشهم في الصباح، أو الذاهبين إلى مدارسهم وجامعتهم من طلاب العلم ونحوهم، ومثل ذلك من قُتلوا في تفجيرات شرم الشيخ من المصريين المسالمين، أو السائحين المستأمنين.

خامسا: إن الدستور الأخلاقي للحرب المشروعة في الإسلام -وهي التي تتقابل فيها الجيوش وجها لوجه: جيش المسلمين وجيش المعتدين- يفرض الإسلام فيها ألا يُقتل إلا من يقاتل، وحين رأى الرسول في بعض الغزوات امرأة مقتولة، غضب وقال: "ما كانت هذه جنده لتقاتل!".

ولذا نهى عن قتل النساء والأطفال والشيوخ الكبار، والرهبان في صوامعهم، والحُرّاث في أرضهم، والتجار في أموالهم، وهو ما توافقت عليه نصوص القرآن، وأحاديث الرسول، وتوجيهات الخلفاء الراشدين.

فكيف بقتل أناس لا يحملون السلاح، ولا يشاركون في الحرب على المسلمين بقول ولا فعل؟!.

سادسا: إن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين قد أصدر من قبل فتوى متصلة، جرّم فيها خطف الأبرياء ممن لا يشاركون في الحرب، وإذا خُطفوا وجب أن يُعاملوا بالحسنى، ولن يكونوا أقل من أسرى الحرب الذين أمر الرسول بحسن معاملتهم، وقال تعالى في شأنهم: )فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً( (محمد: 4).

ولهذا طالبنا الخاطفين بأن يتقوا الله فيمن خطفوهم ويحسنوا إليهم، حتى يُطلق سراحهم. وساهمنا في إطلاق سراح الصحفيين الفرنسيين والإيطاليين وغيرهم.

واستنكرنا قتل السفير المصري. ونطالب اليوم بإطلاق القائم بالأعمال الجزائري ومن معه.

سابعا: إن إنكارنا لهذه التفجيرات والأعمال التدميرية، التي تهدف إلى القتل والتخريب والترويع، لا يعني أننا نبرّر ما يقع على المسلمين من المظالم في فلسطين والعراق وأفغانستان، وغيرها من بلاد الإسلام، ولكننا نقاوم هذه المظالم بوسائلنا المشروعة، ولا نبرّر بسببها الأعمال الإجرامية بحال من الأحوال. وندعو إلى تجميع كل القوى، والمصالحة بين الشعوب والأنظمة الحاكمة؛ لنقف جميعا ضد التحديات الهائلة المفروضة على الأمة، والتي تتطلب تضافر الجهود لتحقيق الهدف المشترك.

إنني أكتب هذا البيان وأنا على فراش المرض؛ استجابة لما أخذه الله من ميثاق على أهل العلم أن يبينوا للناس الحق ولا يكتموه؛ حتى نبرّئ الإسلام من التهم الكاذبة التي تنسب إليه، وحتى نقيم الحجة على المنحرفين، )لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ(.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

جمادى الآخرة 1426 هـ- القاهرة في 23 يوليو من سنة 2005 م

يوسف القرضاوي- رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين