فصول في العقيدة بين السلف والخلف

تحميل الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رحمة الله للعالمين، وحجته على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد،

فهذه فصول في العقيدة، تتضمن جملة من الأمور التي كثر - ولا يزال يكثر - فيها التنازع بين الاتجاهات والطوائف الإسلامية المختلفة، ما بين الغلاة والمقصرين.

وقد شرحت فيها أربعة أصول من الأصول العشرين للإمام الشهيد حسن البنا - عليه رحمة الله - اجتهد فيها أن يقول كلمة موجزة وحاسمة في هذه الأمور التي اختلف فيها السلف والخلف، وتنازع فيها الصوفية والسلفية؛ لاختلاف مشرب كل منهما من ناحية، ولاختلاف الموقف من الالتزام بظواهر النصوص، أو الجنوح إلى تأويلها جزئيا أو كليا.

وهذه الأصول هي: الأصل العاشر، والأصل الثالث عشر، والأصل الرابع عشر، والأصل الخامس عشر.

والأصل العاشر هو الذي احتل مساحة أوسع في هذا الجزء؛ لأنه يتضمن موضوعا طال فيه النزاع بين السلفيين وغيرهم، وهو ما يتعلق بما يسمى «آيات الصفات وأحاديث الصفات»، والمراد بها: الصفات الخبرية التي تحمل ما قد يوهم مشابهة الله تعالى لخلقه في التركيب، مثل: الوجه، واليد، واليدين، والأيدي، والأصابع، والقدم، والساق، والعين، والأعين، والجنب، والحقو، والصورة، وغيرها مما توصف به الأجسام الحادثة المخلوقة.

ومثل: الأفعال والحركات التي هي من لوازم الحدوث، مثل: المجيء، والإتيان، والنزول، والاستواء.

وكذلك ما يدل على التحيز في جهة، مثل: الفوقية، والعلو، وأنه في السماء.

وأيضا: ما يدل على انفعالات عند المخلوقين، مثل: الرحمة، والنقمة، والمحبة، والكره، والرضا، والغضب، والضحك، والعجب، والفرح.

وقد اخترنا في هذه الأمور منهجا وسطا، قد لا يعجب بعض إخواننا السلفيين، الذي تعصبوا لرأي واحد لا يتنازلون عنه، ولا يتساهلون فيه.

وقد أطلنا النقل في هذه القضية لنجليها للباحث والقارئ المنصف الذي يريد أن يعرف الحقيقة، دون عصبية لرأي قديم، أو عبودية لفكر جديد، وناقشنا شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي أعترف له بالإمامة في سائر علوم الإسلام وآخذ عنه، وأقتبس منه، ولكني أراه في هذا الموضوع متشددا غاية التشدد، وهو - على كل حال - بشر غير معصوم.

قد رأيت - كما رأى الإمام البنا - أن الخلاف بين السلف والخلف في هذه القضية ليس بالحدة والعمق والسعة التي يتصورها - أو يصورها - الكثيرون ممن يتناول هذه القضية بالبحث، ولو تأمل كل فريق وأنصف لوجدوا أن ما يجمعهم أكثر مما يفرقهم.

فهذا ما يتعلق بالأصل العاشر.

والأصل الثالث عشر: كان موضوعه الأولياء وما لهم من كرامات، وهو موضوع كثر فيه الخلط والخبط، وضاعت فيه الحقيقة بين الإفراط والتفريط، وقد كان موقف الإمام البنا فيه وسطا كعادته، وكذلك كان شرحنا يأخذ هذه الوجهة المعتدلة، فلم يغل في الإثبات كما غلا الكثيرون في إثبات الكرامات والتوسع فيها، حتى كأن الكون أصبح عجينة لينة في يد من سموهم الأولياء، فلم يعد يخضع لسنن ولا قوانين، كما لم نغل في النفي، كما غلا المعتزلة قديما، الذين أنكروا الكرامات لاعتبارات ذكروها، وقد ناقشناها ورددنا عليها، ومثلهم في عصرنا: العقلانيون الجدد، الذين لا يؤمنون بالخوارق معجزة لنبي، ولا كرامة لولي، بل لعلهم لا يؤمنون أصلا بنبي ولا ولي، وجلهم من المتغربين الذين جعلوا من الغرب قبلة لهم، وجعلوا من فلاسفته ومفكريه أئمة لهم، يقلدون مذاهبهم، ويتعصبون لهم، أكثر من تعصب المقلدين عندنا لمشايخهم.

والأصل الرابع عشر: قريب من إطار الأصل السابق، فهو يتضمن تصحيح الاعتقاد والسلوك حول القبور وأهلها المقبورين فيها، وبعض الخرافات والمبتدعات الشركية المتعلقة بها، سواء ما يتعلق ببنيانها، وإضاءتها، وسترها والصلاة عندها، والاستعانة بالمقبورين فيها، ودعائهم، ونحو ذلك من المنكرات، والتفريق بين الزيارة الشرعية والزيارة البدعية لها، وضبط أحكامها وفقا لما جاءت به النصوص في شأنها، وخصوصًا من السنة النبوية.

والأصل الخامس عشر: يتعلق بمسألة «التوسل» بالنبي صصص، وبغيره من الأنبياء، والملائكة، والصالحين من أولياء الله، أي: يسأل الله تعالى حاجته متوسلًا بجاه هؤلاء أو أحدهم عند الله تعالى، أو بحقه على الله - جل جلاله. فالمتوسل إليه والمدعو هو الله تتت، ولكن الخلاف في المتوسل به، ولذا قال الأستاذ البنا: إنه من مسائل العمل والفروع، وليس من مسائل العقيدة، وهذا حق، وقد نقلنا مثله عن الإمام محمد بن عبد الوهاب نفسه، وعن بعض السلفيين الأقحاح مثل: الشيخ الألباني، فلا معنى للإنكار على الإمام البنا.

وقد بينا التوسل المشروع، والتوسل غير المشروع، بإيجاز غير مخل، يكفي القارئ، ويهديه إلى سواء السبيل، ولم نراع الترتيب في هذا الجزء في الأصول كما وردت في متن المؤلف - أعني الإمام البنا: - فقد تركنا الأصل الحادي عشر والثاني عشر؛ لأنهما في غير موضوع العقيدة، وسنتحدث عنها في الجزء القادم - إن شاء الله.

وهذه نصوص الأصول الأربعة التي ألقينا الضوء عليها في هذا الجزء السادس:

"الأصل العاشر: معرفة الله تعالى، وتوحيده، وتنزيهه: أسمى عقائد الإسلام، وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة، وما يتعلق بذلك من المتشابه: نؤمن بها كما جاءت، من غير تأويل ولا تعطيل، ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء ويسعنا ما وسع رسول الله صصص وأصحابه: {وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَا} (آل عمران:7).

الأصل الثالث عشر: ومحبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرف من طيب أعمالهم: قربة إلى الله تتت، والأولياء هم المذكورون في قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} (يونس:63)، والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية، مع اعتقاد أنهم - رضوان الله عليهم - لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا في حياتهم أو بعد مماتهم، فضلا عن أن يهبوا شيئا من ذلك لغيره.

الأصل الرابع عشر: وزيارة القبور أيا كانت سنة مشروعة بالكيفية المأثورة، ولكن الاستعانة بالمقبورين أيا كانوا ونداءهم لذلك وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد، والنذر لهم، وتشييد القبور، وسترها، وإضاءتها، والتمسح بها، والحلف بغير الله، وما يلحق بذلك من المبتدعات كبائر تجب محاربتها، ولا نتأول لهذه الأعمال سدا للذريعة.

الأصل الخامس عشر: والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء، وليس من مسائل العقيدة". انتهى.

ونختم بالدعاء المأثور: "اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه". آمين.

الفقير إلى الله تعالى

يوسف القرضاوي

الدوحة: رمضان 1425هـ

نوفمبر 2004م