شمول الإسلام

تحميل الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

اللهم ربنا لك الحمد، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، وصلاة وسلاما على صفوتك من خلقك، وخاتم أنبيائك ورسلك، سيدنا وإمامنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

أما بعد ...

فقد كان من قدر الله تعالى وفضله علي، أن هيأ لي الاستماع إلى الإمام الشهيد حسن البنا، وأنا طالب في السنة الأولى من المرحلة الابتدائية بمعهد طنطا الأزهري الديني، وذلك عام 1941م، وقد تجاوزت الرابعة عشرة من عمري.

كان حسن البنا يتحدث في مناسبة الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم، ولأول مرة في حياتي أسمع - منذ عقلت ووعيت - كلاما جديدا عن الهجرة الشريفة وما يستخلص منها من دروس وعبر، فطالما سمعت في أوائل المحرم من كل سنة من الوعاظ والخطباء في قريتنا، قصة الهجرة وأحداثها، خصوصا ما يتعلق بقصة «الغار»، ونسخ العنكبوت، وبيض الحمام ... إلخ ولكن حسن البنا تحدث عن الهجرة باعتبارها حدا فاصلا بين عهدين: عهد تربية الفرد في مكة، وعهد إقامة الدولة في المدينة، وخصائص كل منهما، وكيف نستفيد نحن في هذه الذكرى، لنعمل على تكوين الفرد المسلم، وصولا إلى بناء المجتمع والدولة.

تركت كلمات حسن البنا أثرها في عقلي وقلبي، وظللت أترقب وصوله إلى مدينة طنطا - عاصمة مديرية الغربية - في المناسبات المختلفة، لأهرول إليه، وأستمع إلى حديثه بشغف ولهفة، وإن كنت لم أدر بعد ما السبيل إلى الانخراط في جماعته، والانضمام إلى ركب دعوته؟

حتى كنت في السنة الرابعة الابتدائية، ودعيت من قبل قسم الطلاب في شعبة الإخوان بطنطا للمشاركة في النشاط الثقافي بإلقاء قصيدة شعرية في موضوع إسلامي أختاره، واستجبت للدعوة مستبشرا، واعتليت المنصة لأول مرة في مركز الإخوان لألقي قصيدة أنشأتها بهذه المناسبة، لم أعد أذكر إلا مطلعها:    قلبي يحس برحمة تتدفق      ويرى الملائك حولنا قد أحدقوا

واعتبرت من ذلك اليوم واحدا من طلاب الإخوان المسلمين، ثم بعد ذلك أحد أعضاء قسم نشر الدعوة، الذي يشرف عليه الداعية الكبير أستاذنا البهي الخولي رحمه الله .

كان الإمام حسن البنا في القاهرة، وكنت في طنطا حيث أدرس في معهدها الديني قريبا من قريتي... ولهذا كانت فرصة لقائي بالإمام البنا محدودة، وهي مرهونة بزيارته لطنطا أو للمدن القريبة منها، أو المرتبطة بها مثل: المحلة، أو كفر الزيات، أو دسوق.

وكم كنت معلق القلب بذلك اليوم الذي أفرغ فيه من دراستي الثانوية بطنطا، وألتحق بجامعة الأزهر بالقاهرة، حيث تتاح لي فرصة اللقاء والملازمة والتتلمذ المباشر للإمام البنا، ولكن القدر كان يخبئ شيئا ادخره للرجل الكبير، وهو الشهادة في سبيل الله.

وما كان أفجعه من نبأ، نزل علينا كوقع الصاعقة، حين قرأناه في الصحف، يوم ترحيلنا من سجن قسم أول طنطا إلى معتقل «هايكستب»، ومنه إلى معتقل «الطور» في 13/2/1949م نبأ اغتيال الشيخ البنا، هدية للملك فاروق في يوم عيد ميلاده!

وهكذا قدرت شيئا، وقدر الله شيئا آخر، وحرمت التتلمذ المباشر على إمام الدعوة، ولم يبق أمامي إلا التتلمذ على أفكاره المبثوثة في رسائله ومقالاته، وفي تلامذته وأصحابه الذين عايشوه وتلقوا عنه العلم والعمل، والفكر والسلوك.

والحق أني لم أعجب بشخصية حية لقيتها وتأثرت بها، كما أعجبت بشخصية الشهيد حسن البنا، الذي آتاه الله من المواهب والملكات ما تفرق في عدد من الشخصيات، فقد جمع بين العلم والتربية، ومزج بين الفكر والحركة، وربط بين الدين والسياسة، ووصل ما بين الروحانية والجهاد، وكان النموذج الحي للرجل القرآني، والمعلم الرباني، والمجاهد الإسلامي، والداعية العصري، والمنظم الحركي، والمناضل السياسي، والمصلح الاجتماعي.

ولم يكن هذا شأني وحدي، فإن كل من عرف حسن البنا أعجب به إعجابا كبيرا، وكلما زادت معرفته به بالاختلاط والمعاشرة ازداد إعجابا به، وحبا له، كما لمست ذلك من كثيرين من شيوخ الدعوة وشبابها: البهي الخولي، ومحمد الغزالي، وسيد سابق، وعبد العزيز كامل، وفريد عبد الخالق، وعمر التلمساني، ومصطفى مشهور، وعباس السيسي... وغيرهم.

ومن لم يعرف حسن البنا عن طريق المعايشة والمخالطة عرفه عن طريق أثره الفكري والتربوي والتنظيمي، وهذا ما جعل الشهيد سيد قطب يصفه بـ«عبقرية البناء» حين شاهد هذه المجموعة الهائلة من الترتيبات والأبنية والنظم التربوية والحركية التي ابتكرها هذا الرجل «الملهم الموهوب» كما سماه المرشد الثالث الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله .

والذي يهمنا هنا أني وعيت ما كتبه الشهيد البنا، وقرأت تقريبا كل ما عثرت عليه من تراثه، وإن كان مما يؤسف له أن هذا التراث إلى اليوم لم ينشر في صورة «مجموعة أعمال كاملة» كما حدث ذلك لأمثال جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشيخ رفاعة الطهطاوي... وغيرهم.(1)

وكان مما شدني وبهرني من تراث الإمام البنا: رسالته الفريدة المركزة التي أرسى بها دعائم العمل الحركي الجماعي... وهي: «رسالة التعاليم» التي وجهها إلى «الإخوان العاملين» من الإخوان المسلمين، وقال في مقدمتها:

"أما بعد... فهذه رسالتي إلى الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين، الذين آمنوا بسمو دعوتهم، وقدسية فكرتهم، وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها، أو يموتوا في سبيلها، إلى هؤلاء الإخوان فقط أوجه هذه الكلمات الموجزة، وهي ليست "دروسا تحفظ" لكنها "تعليمات تنفذ" ، أما غير هؤلاء، فلهم دروس ومحاضرات، وكتب ومقالات، ومظاهر وإداريات، ولكل وجهة هو موليها، فاستبقوا الخيرات، وكلا وعد الله الحسنى".

اشتملت الرسالة على «أركان عشرة» للعمل الإسلامي المنشود، أطلق عليها عنوان «أركان البيعة»، وذلك لأن كل من يريد أن ينتقل من «عضو مشترك» إلى «عضو عامل» أو «أخ عامل» لا بد له أن يبايع قائد الدعوة أو من ينوب عنه على تحمل تبعات هذه المرحلة وأعبائها، وما توجبه على صاحبها من سمع وطاعة وكتمان وجهاد وتضحية وعمل متواصل وثبات إلى النهاية.

وقد نناقش معنى هذه البيعة ومضمونها في مقام آخر، ولكن الذي يعنينا الآن من أركان البيعة العشرة هو: الركن الأول «الفهم».