مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب
ليست هذه الصحائف حديثًا عن النظام الاقتصادي في الإسلام، فإن لذلك مجالًا أرحب، وحديثًا أوسع، يتناول بالتفصيل أحكام الإسلام ووصاياه الخاصة بالنشاط الإنساني، فيما يتعلق بالثروة وإنتاجها وتبادلها، وتوزيعها واستهلاكها، وما وُضِعَ لذلك من قواعد وحدود أقام بها القسط، وحقق التوازن بين حرية الفرد ومصلحة المجتمع، وبين دين الناس ودنياهم.
إن البحث في نظام الإسلام الاقتصادي بحث طويل الذيول، قُدِّرَ لي أن أعمل فيه منذ سنوات، أثناء بحثي في فريضة الزكاة الإسلامية، وقد أتممت بحث الزكاة بحمد الله، ولم أفرغ بعد من البحث الآخر، ولعل الله يعينني على إتمامه بمدد من عنده، وما توفيقي إلا بالله، أما حديثي هنا، فعن جزء خاص من هذا النظام، هو ما يتعلق بمشكلة الفقر وعلاجه، ورعاية حقوق الفقراء، وضمان حاجاتهم، وصيانة كرامتهم في المجتمع المسلم، وفي ظل الشريعة الإسلامية.
وقد عرفت الإنسانية الفقر والفقراء منذ أزمنة ضاربة في أغوار التاريخ، وحاولت الأديان والفلسفات منذ القدم أن تحل مشكلة الفقر، وتخفف من عذاب الفقراء.. حينًا عن طريق الوصايا والمواعظ والترغيب والترهيب، وتارة عن طريق التحليق النظري في عالم مثالي لا تفاضل فيه ولا طبقات، ولا فقر ولا حرمان.
وهو عالم يُرسَم على صفحات الكتب لا في واقع الناس، وأبرز مثل لذلك جمهوية أفلاطون، قبل بضعة قرون من ميلاد المسيح سسس، وطورًا عن طريق حركات متطرفة تريد معالجة الانحراف الواقع بانحراف أشد منه، كحركة «مزدك» في فارس بعد خمسة قرون من الميلاد، وقد دعا إلى شيوعية الأموال والنساء!
وفي عصرنا هذا احتلت مشكلة الفقر - والمشكلة الاقتصادية على وجه عام - مكانًا فسيحًا في عقول الناس وقلوبهم، واتَّخذها المخربون والهدَّامون أداة لإثارة الجماهير، والتأثير عليها، وكسبها إلى جانب مذاهبهم اللادينية الباطلة، بإيهامهم أنها في صف الضعفاء وفي خدمة الفقراء، وساعد على ذلك جهلُ المسلمين بنظام الإسلام، وتأثرهم بالدعايات المضللة التي مَسَخَتْ صورته، وشوَّهت جماله، مستغلة في ذلك الواقع الكئيب لحياة المسلمين، والأفهام الخاطئة لبعض علمائهم في عهود الانحطاط.
ولهذا وجب على كل من عنده علم من الإسلام أن يبين للمسلمين حقيقة ما بعث الله به محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - من الهدى والرحمة، وما شرع الله على يديه من أحكام تُعالج مشكلات الفرد والمجتمع علاجًا يقتلع الداء من الجذور، لا مجرد علاج سطحي بمسكنات وقتية، تخفف الألم ساعة من الزمن، ولا تستأصل جرثومة المرض.
وما عرضناه هنا من علاج الإسلام لمشكلة الفقر قد رددناه إلى أصوله ومصادره الإسلامية الخالصة من الكتاب والسنة، وأقوال الأئمة المجتهدين من فقهاء الإسلام، حتى لا يتهمنا امرؤ متحيز أو جامد بأننا نقدم للناس إسلامًا جديدًا ليس هو الإسلام الذي عرفه الصحابة، وفهمه أبو حنيفة ومالك وغيرهما من الأئمة، كما زعم ذلك بعض المستشرقين فيما يكتبه الدعاة إلى الإسلام اليوم.
وسيتبين للقارئ في هذه الصحائف: أن نظرة الإسلام إلى الفقر وعلاجه له ووسائله في علاجه، ورعايته لحقوق الفقراء، وكفالته لحاجاتهم المادية والأدبية تجعله مذهبًا متميزًا عن كل مذهب آخر يُرَوِّجُ له المروجون في بلادنا وغير بلادنا في هذا الزمن.
ويتبين له أن من الخطأ البين أن يُنْسَبَ الإسلام إلى أحد هذه المذاهب، أو يُنسب أحدها إليه، فيُقال مثلًا: إن الاشتراكية من الإسلام، أو الإسلام من الاشتراكية، أو يقال: إن الإسلام رأسمالي، أو أن الرأسمالية إسلامية!
إن للإسلام نظرة إلى الحياة، وإلى الإنسان، وإلى العمل، وإلى المال، وإلى الفرد، وإلى المجتمع، تخالف في مجموعها نظرة المذاهب الأخرى يمينية ويسارية: إنها نظرة متفردة مستقلة، لا شرقية ولا غربية، بل ربانية إنسانية: {يَكَادُ زَيۡتُهَا يُضِيٓءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارٞۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٖۚ يَهۡدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن يَشَآءُ}[النور: 35].
فلندع للإسلام أصالته وشموله، وعمقه واتزانه، وسبقه وتفوقه، وليكن أكرم علينا من أن نخلطه بفلسفة أو فكرة أخرى، ولندعُ إليه وحده- بكل يقين وشجاعة - علاجًا لكل مشكلاتنا، وحلًّا لكل عقدنا، فهو وحده الدواء لكل داء، والمصباح في كل ظلمة، وما عداه من المبادئ والأنظمة التي يُرَوِّجُ لها الخادعون والمخدوعون: إن هي إلا أوهام مضللة، وأفكار متضاربة، وتجارب فاشلة، حسبنا منها أنها- جلّها أو كلها - من صنع اليهود الخبثاء، وعمل الكفار الماكرين: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَسَرَابِۢ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمَۡٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡٔٗا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥۗ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ 39 أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ} [النور: 39، 40].
يوسف القرضاوي
الدوحة في شعبان 1386هـ
نوفمبر 1966م