مدحت العزوني

لا أعرف كيف وماذا أكتب؟ ولا أعرف من أين أبدأ؟ وقلمى عاجز، وفكرى حائر، والسؤال الذى يحضرنى دائما، فى هذا المقام هو كيف استطيع أن اكتب عن هذا العالم الربانى الكبير، وهل أستطيع أن أعطيه بعض حقه؟

هذا العالم الذى ملأ الأرض بعلمه، والذى لم توجد بقعة من الأرض، إلا وله فيها، تلاميذ، ومحبون، ومريدون، هذا العالم الذى لم تخل مكتبة فى العالم من كتبه، والذى أصبحت مؤلفاته مرجعاً للعلماء والباحثين.

منذ زمن، وأنا اتمنى، أن أكتب عن هذا الجبل الأشم، وأقرأ كثيرا من المقالات، والأبحاث التى تكتب في شخصه، وفى علمه ، وفى منهجه، وتاريخه، وجهاده، ومواقفه التى لا تخفى على أحد، منها ماتعلمت منها وتمنيت أن أكتب مثلها، ومنها لم تعطه حقه كما يجب أن يكون.

فلم يكن قلمى يساعدنى على الكتابة فى حق الشيخ الجليل، فعندما أمسك القلم، وابدأ بالكتابة، أشعر وكأننى كالطفل الصغير، الذى يتعلم الكتابة، ولا يدري كيف يمسك القلم فضلاً عن الكتابة نفسها.

من أي محطة فى حياة الشيخ ابدأ، وعن أى بحر من بحوره أتكلم.

هل أبدأ من مسقط الرأس"صفط تراب" بن القرية والكتاب، كما وصفها ابنها، الذى أصبح عالم الأمة وفقيه العصر، أو صفط تراب نيويورك وبالعكس كما تخيلها كاتبها وأديبها، وهو أحد ادباء القرية.

وسأكتفي بالحديث عن جانب من علاقة الشيخ بقريته، وهى قرية بسيطة من قرى محافظة الغربية بوسط الدلتا، والوجه البحرى لاتختلف كثيراً عن غيرها من القرى، ذات الطابع الريفى المعروف، ولكنها تتميز بعراقتها.. تلك القرية الضاربة بجذورها في التاريخ ما بين فرعوني وروماني وإسلامي.

وموطئ أقدام الصحابة رضوان الله عليهم، فقد اقام بها عبد الله بن الحارث بن جزء بن عبد الله بن معد يكرب الزُبَيْدي "أبي الحارث"، نزيل مصر، الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث أخرجها له الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة. جاء فى فتح مصر، وظل بها إلى أن مات سنة 86 من الهجرة، وهو آخر من مات من الصحابة فى مصر.

وتتميزأيضا هذه البلدة، بأنها بلد العلم والعلماء،بداية من عبد الله بن الحارث، وانتهاء بالقرضاوي العالم، والمربى، والفقيه والمجاهد، والشاعر، والأديب.

تميز الشيخ بكثير من الصفات الانسانية التى قل أن توجد مجتمعة، ومنها الكرم، والإحسان، والتعاون، والبشاشة، والإخاء والرحمة، والمودة، والتواضع، والبساطة، ولذا تربع فى قلوب المسلمين فى العالم، وحتى غير المسلمين المنصفين، ويتحلى الشيخ ايضاً بالصبر الجميل على الجهال وأصحاب المصالح الذين باعو آخرتهم بدنيا غيرهم والذين سولت لهم انفسهم بالتطاول عليه ورميه بالباطل، ارضاء للحكام والأمراء، أو فى مقابل مصالح دنيوية زائفة.

كما قال الشاعر:

يخاطبني السفيه بكل قبح *** فأكـره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهـة فأزيد حلماً *** كعود زاده الاحراق طيبا

تعرض الشيخ من قبل، لكثير من حملات التشويه والنيل منه، إلا انها باءت بالفشل، لوقوفه مع الحق ضد الباطل، ومع المظلوم ضد الظالم، وهكذا هو أبدا، ولم تكن هذه هي المرة الأولى ولم تكن الأخيرة.

ومن الأسف أن يكون اسم القرضاوي دائما مهاجم ومحارب، في بلده الأصلي مصر، حتى انه يحارب فى أبسط الامور الذى يقوم بها داخلياً وخارجياً، وعلى كل الاصعدة المحلية والدولية، ليس لشئ إلا لوجود اسم القرضاوى، والذى اصبح مصدر قلق لكل الانظمة الفاسدة والمحسوبين على العلم من أهل الضلال أمثال على جمعة وأحمد الطيب، الذين تربوا في لجنة السياسات، والذين يتبعون البدع والخرافات، ويحتفلون بإعياد ميلادهم فى نوادى الليونز والروتارى الماسونية.

عندما اراد الشيخ أن يقوم ببعض المشاريع ذات النفع العام ببلدته، منها مشاريع تعليمية وأخرى صحية وغيرها من المشاريع التى كانت القرية فى حاجة اليها وهذا من باب الوفاء لقريته التى لاينساها ابداً وهى دائما فى وجدانه.

حيث كان الشيخ وما زال دائم السؤال عن قريته ولم ينقطع عنها أبدا، بالرغم من كثرة انشغالاته وأعماله واهتماماته،  بالدعوة ومصالح الأمة الإسلامية، لم يغفل الشيخ ولم ينس السؤال عن القرية وأهلها والأقارب، ومعرفة أحوالهم وظروفهم والاطمئنان عليهم ودعوتهم ومشاركتهم له فى مناسباته السعيدة.

وبدأ الشيخ منذ زمن بإقامة بعض المشاريع وابتدأها بإقامة مجمع يضم معهد لتعليم القرآن الكريم والعلوم الشرعية والعربيه وغيرها، وبناء مسجد، ومكتبة علمية، ومستوصف طبى لخدمة البلدة والبلاد المجاورة، الا انه سرعان ماحوربت هذه المشاريع من نظام الدولة العميقة الذى كان يقف دائماً بالمرصاد لأى مسيرة إصلاحية من شأنها خدمة المجتمع والارتقاء به علمياً وثقافياً دون مبرر أو إبداء أى أسباب مقنعة، ولكن فقط لكونها مشاريع تابعة للقرضاوى، ولم يترك منها إلا ماسيتبع الدولة حتما؛ وهى صورة بسيطة من صور الفساد فى مصر، المتمثلة فى محاربة العلماء ومشاريعهم العلمية والفكرية.

وبعد قيام ثورة 25 من يناير الثورة التى هزت العالم وضربت أروع الامثلة فى السلمية والبطولة والثبات، والتى اعتبرها بعد العقلاء أنها أفضل حدث فى مصر بعد الفتح الإسلامى. أراد الشيخ أن يكمل مابدأه من عدة عقود من مشاريع لخدمة القرية والقرى المجاورة بل وأكثر من ذلك، وتم البدء في هذه المشاريع حتى وصلت الى مراحل متقدمة، إلا أن الفرحة لم تكتمل، وانقلب العسكر على الشرعية وعادت الأمور إلى ما كانت عليه قبل 25 يناير، بل الى الأسوأ بل الى الاشد سوءا، وتوقفت مشاريع القرضاوي في قريته مرة أخرى.

فجزاك الله يا فضيلة الشيخ عن قريتك خيرا، وعن بلدك مصر، وعن أمتك العربية والإسلامية خيرًا، سواء تم لك ما أردت من مشروعات أو عوَّقها المعوِّقون، وحاربها المستبدون؛ فالله لا يضيع أجر من أحسن عملا.