د. كوثر يونس |
د. كوثر يونس
القرضاوي أمة في رجل، ورجل أمة، وللكرامة مراتب، وحياته أكبر كرامة؛ فهو رجل يصنع نفسه، ورجل يصنع أبناءه، ورجل يصنع عائلته، ورجل يصنع شرفا، ورجل يصنع مجدا، ويصنع صحوة في أحلك العصور وأشدها ضراوة وشراسة على أمة الحبيب محمد عليه صلوات الله وسلامه.
ولن نبالغ إن قلنا إن القرضاوي رجل عصر المصائب والبلايا والمهالك، عصر يستباح فيه الأقصى وتدك جدرانه وتدنس طهارته والكل في غفلتهم يعمهون وإلى المذبح يسيرون، وتتجمد العقول تتحجر الأرواح، على المآذن يكبر للنيام: إنهم يهدمون الأقصى، ويشيدون هيكل سليمان. ومن بين الركام ومن بين الصخور الصم والعقول العمي والضمائر الميتة والأرواح المتيبسة، يعلو صوته الواثق بالله تعالى: أنقذوا الأقصى..
الأقصى شريان القرضاوي الأبهر، وتحرير فلسطين حلمه الأكبر، واستفاقة الأمة واستعادة مجدها مبتغاه الأعظم. دعا طيلة حياته بوجوب تحريره من عدوالله وعدو الدين وعدو البشرية جمعاء! الأقصى الجرح والشفاء! الأقصى الشاهد والشهيد.. الأقصى الجرح والجريح، الأقصى الأمانة المحمولة في نفوسنا منذ ست وستين عاما..
هل نَضَبَ المعين فجفت مياه المجرى؟ وماتت الهمم فيموت الحق ويموت الأقصى؟؟
الأقصى الأمانة المحمولة في نفس القرضاوي منذ بواكير شبابه إلى يومه هذا.. فوهب عمره ينادي من أجل تحرير الأقصى وتحرير فلسطين، وقد كان يضع أمله في العرب وفي المسلمين كافة؛ شأنه شأن أي عالم، أومجدّد، أومصلح إسلامي، يعمل على النهوض بأمة الإسلام، وليس قوم أحقَّ من العرب المسلمين بالنهوض، واستلامِ زمام القيادة، وتحرير الأقصى وإرجاع المجد لأصله.. وقال في ندائه: أيها العرب.. أيها المسلمون.. أيها الأحرار في أنحاء العالم، هبوا من سباتكم، وانهضوا للدفاع عن حرماتكم. فحرام عليكم أن تعبث اليهود بالأقصى، ويحاولوا اقتسامه، كما فعلوا بالمسجد الإبراهيمي: زمانيا أومكانيا. كل هذا مرفوض من كل مسلم ومسلمة، وفي سبيل المسجد الأقصى تراق الدماء، ويبذل المسلمون الأرواح والأموال والأولاد..
وينتظر فضيلته من العرب أن يوحّدوا صفوف المسلمين، ويعيدوا إلى الإسلام سالف عهده، وأمله كبير بأن الأجيال القادمة سوف تعيش اليوم الذي يمتدّ فيه الإسلام إلى شتى أنحاء العالم.
ويؤكد القرضاوي على أن الأقصى سرى في كل الشعوب العربية، فلا يمكنهم الانفصال عنه والانفصام، فلا معنى للعرب ولا مكانة إلا إذا اقترنت عروبتهم بإسلامهم، وأنقذوا أقصاهم ودافعوا عن حرماتهم وطهروا مقدساتهم . فالأقصى العظيم شمس معنوية لا يخبو سناها، ولا يمكن إطفاء نورها ولوكره الكافرون.
ويقول القرضاوي إننا أضعنا الدنيا وأضعنا أنفسنا وانحرفت الأمة عن الصراط المستقيم بابتعادها عن دينها الذي هو عصمة أمرها، فأصبحنا ألعوبة في أيادي الدول الكبرى اللائي فعلن ما فعلنا في الحرب وقتلن ما قتلن فيها من ملايين البشر.. وجعلوا من حقهم انتزاع بلاد من أهلها ومنحها قوم غير أهلها من غير حرب بمنتهى الظلم والفجور، وهذا حال فلسطين التى منحوها لمشردي اليهود الأفقين لينشئوا فيها دولة، ومنذ ذلك الوقت الحزين لا يزال الموت الذي فتح اليهود أبوابه على مصاريعها، يأكل من سكان فلسطين وباتوا سوسا ينخرون عظام هذه الأمة، تأكلهم وأرضهم وأقصاهم بأنياب ناخرة دامية من قتل وتهجير وتهويد وسط صمت وتعاون عربي واسلامي مقيت.. وها هو اليوم الأقصى يهان وها هو اليوم ينزف، يتكئ على سيفه المبتور صارخا أيا هؤلاء ؟ ! أما يزال في أحدكم رمق من حياة؟
وأخاف أن يجيبه صمت القبور: لقد ماتوا جميعا !!
نادى لإنقاذ الأقصى وفي صوته غصص ألم وحزن على نكبات الأمة وخساراتها وجروحها وعذاباتها، ففي هذه الليالي المظلمة الطويلة الحزينة، وفي هذا الجو الحافل بأسى الغربة عن ديننا ومجدنا وعزتنا وأنفتنا، ومن واقعنا المؤلم الأليم، جثم على صـدر الأمة يأس ثقيل نحو الأقصى وفلسطين، فكلما التفتُّ إلى عجزي وانفرادي انقطع رجائي وأملي.
ولكن فضيلته دائما يزرع الأمل في كل النفوس: لا تقنطوا من رحمة الله، ويدعو إلى دحر اليأس الذي بلغ بالمسلمين مبلغه، ومحاربة فساد الأخلاق وفقدان الصدق في الحياة الاجتماعية والسياسية، والبحث عن روابط المحبة والتعاون والتكافل بين المسلمين، ومقاومة الاستبداد المنتشر انتشار الأمراض السارية.
أكد على الأخوة والصدق، فهما أساس الإسلام وواسطة العقد في سجاياه الرفيعة ومزاج مشاعره العُلْوِيَّة، وهما حجر الزاوية والركن السليم في حياتنا الاجتماعية في نفوسنا، نداوي به أمراضنا المعنوية وانتكاساتنا العلمية والمادية، ويؤكد فضيلته على أن المسؤولية تقع على عاتق الجميع حكاما ومحكومين، وعدم الانطراح على فراش الكسل، والخلود إلى الراحة وعدم المبالاة بالمسلمين، وعدم الاستسلام الى حالة الضعف والهوان فقيمة الشخص بهمته، فمن كانت همتُه أمتَه فهو بحد ذاته أمةٌ صغيرة قائمة مهابة تهاب.
نعم هذا هو القرضاوي الذي استخلص الدواء الشافي من صيدلية هذا الدين لجروح الإنسانية وقروحها وتوحشها وانحرافها؛ ليس للأمة العربية فقط، بل كل الأمة الإسلامية بل للبشرية كلها، ولكل زمان ومكان ما تعاقب الليل والنهار، وقدَّمها خلال لقاءته ودعواته وندواته وكتبه ومقالاته التي هي أصلاً من نور القرآن العظيم، ومن عطر سنة نبينا الكريم ومن بلسم سيرة أصحابه الميامين، وتدعو هذه الأدوية إلى تطهير النفس، وصقل الروح، وغرس الإيمان ورفع قيمة الإخلاص في النفوس ودحض الكفر والشرك والعمالة والظلم.
لقد دعا القرضاوي إلى صحوة العقول وغسل النفوس مما يشوبها، دعا إلى ذلك بالقول والفعل؛ كيف لا وهو موسوعة علمية، أدبية، إيمانية ضخمة تسد حاجة هذا العصر، وتخاطب مدارك أبنائه وتطلعات أجياله، وتدحض أباطيل الفلاسفة الماديين، وتعجز المستشرقين الحاقدين ومنزوعي الهوية وأعداء هذا الدين، وتزيل شبهاتهم من أسسها، وتبطل سم سهامهم الموجهة لكبد هذا الدين العظيم، وتثبت حقائق الإيمان وأركانه بدلائل قاطعة، وبراهين ناصعة وثوابت راسخة وقرائن جازمة لا لبس فيها ولا تشكيك.
لقد ذاب الإمام المجدد والشيخ المصلح القرضاوي في القرآن، وانصهر في أدبيات الإسلام، وارتوى بسنة حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام، وجاهد في سبيل اعلاء كلمة الله وحفظ دينه ومقدساته ويستميت في تحرير الأقصى.. وكيف لا؟ أوليس الأقصى شريانه الأبهر؟!