فقه الأقليات
- ماذا عن فقه الأقليات وفتاواهم؟ وهل هم بحاجة إلى فقه خاص بهم؟ وكيف ترون قضية الاندماج للمسلمين في المجتمعات الغربية بين الحلال والحرام؟
*أود أن أشير هنا إلى حقيقة مهمة، ينبغي لنا- نحن المسلمين- ألا نغفل عنها، وهي: أنه يجب أن يكون للمسلمين- بوصفهم أمة ذات رسالة عالمية- "وجود إسلامي" ذو أثر، في بلاد الغرب، باعتبار أن الغرب هو الذي أصبح يقود العالم، ويوجه سياسته واقتصاده وثقافته، وهذه حقيقة لا نملك أن ننكرها. فلو لم يكن للإسلام وجود هناك، لوجب على المسلمين أن يعملوا متضامنين على إنشاء هذا الوجود، ليقوم بالمحافظة على المسلمين الأصليين في ديارهم، ودعم كيانهم المعنوي والروحي، بجوار المادي، ورعاية من يدخل في الإسلام منهم، وتلقي الوافدين من المسلمين، وإمدادهم بما يلزمهم من حسن التوجيه والتفقيه والتثقيف، بالإضافة إلى نشر الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين.
ولا يجوز أن يترك هذا الغرب القوي المؤثر للنفوذ اليهودي وحده، يستغله ويوجهه لحساب أهدافه وأطماعه، ويؤثر في سياسته وثقافته وفلسفاته، ويترك بصماته عليها، ونحن المسلمين بمعزل عن هذا كله، قابعون في أوطاننا، تاركين الساحة لغيرنا، في حين نؤمن نظريًّا بأن رسالتنا للناس جميعا وللعالمين قاطبة، ومن هنا لا مجال للسؤال عن جواز إقامة المسلم في بلد غير مسلم، أو في "دار الكفر" كما يسميها الفقهاء، ولو منعنا هذا- كما يتصور بعض العلماء- لأغلقنا باب الدعوة إلى الإسلام، وانتشاره في العالم، ولانْحصر الإسلام من قديم في جزيرة العرب ولم يخرج منها.
ولو قرأنا التاريخ وتأملناه جيدا، لوجدنا أن انتشار الإسلام في كثير من البلاد التي تسمى الآن: العالم الإسلامي، إنما كان بتأثير أفراد من المسلمين، تجار أو شيوخ طرق، ونحوهم، ممن هاجروا من بلادهم إلى تلك البلاد في آسيا وإفريقيا، واختلطوا بالناس في بلاد الهجرة، وتعاملوا معهم، فأحبوهم لحسن أخلاقهم وإخلاصهم، وأحبوا دينهم الذي غرس فيهم هذه الفضائل، فدخلوا في هذا الدين أفواجًا وفرادى.
حتى البلاد التي دخلتها الجيوش الإسلامية فاتحة، إنما كان قصدها بالفتح إزاحة العوائق المادية من طريق الإسلام، حتى تبلغ دعوته للشعوب، ليمكنهم أن يختاروا لأنفسهم، وقد اختارت الشعوب هذا الدين راضية مختارة، حتى كان ولاة بني أمية في مصر يفرضون الجزية على من أسلم من المصريين لكثرة الداخلين في الإسلام، حتى أبطل عمر بن عبد العزيز ذلك، وقال قولته الشهيرة لواليه: إن الله بعث محمدا هاديا، ولم يبعثه جابيًا. فهذه هي دعوة الإسلام هداية لا جباية.
وهذا الوجود الإسلامي في الغرب يحتاج إلى فقه خاص به يعين هذه الأقليات المسلمة- أفرادا وأسرا وجماعات- على أن تحيا بإسلامها، حياة ميسرة، بلا حرج في الدين، ولا إرهاق في الدنيا، ويساعدهم على المحافظة على "جوهر الشخصية الإسلامية" المتميزة بعقائدها وشعائرها وقيمها وأخلاقها وآدابها ومفاهيمها وتقاليدها المشتركة، بحيث تكون صلاتها ونسكها ومحياها ومماتها لله رب العالمين، وبحيث تستطيع أن تنشِّئ ذراريها على ذلك، وتمكِّن المجموعة المسلمة من القدرة على أداء واجب تبليغ رسالة الإسلام العالمية لمن يعيشون بين ظهرانيهم، بلسانهم الذي يفهمونه، ليبينوا لهم، ويدعوهم على بصيرة، ويحاوروهم بالتي هي أحسن، كما قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]. فكل من اتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم فهو داع إلى الله، وداع على بصيرة، وخصوصًا من كان يعيش بين غير المسلمين، ويعاونها على المرونة والانفتاح المنضبط، حتى لا تنكمش وتتقوقع على ذاتها، وتنعزل عن مجتمعها، بل تتفاعل معه تفاعلًا إيجابيًّا، تعطيه أفضل ما عندها، وتأخذ منه أفضل ما عنده، على بينة وبصيرة، وبذلك تحقق المجموعة الإسلامية هذه المعادلة الصعبة: محافظة بلا انغلاق، واندماج بلا ذوبان. وتسهم في تثقيف هذه الأقليات وتوعيتها، بحيث تحافظ على حقوقها وحرياتها الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كفلها لها الدستور، حتى تمارس هذه الحقوق المشروعة دون ضغط ولا تنازلات، ويعين هذا الفقه المجموعات الإسلامية على أداء واجباتهم المختلفة: الدينية والثقافية والاجتماعية وغيرها، دون أن يعوقهم عائق، من تنطع في الدين، أو تكالب على الدنيا، ودون أن يفرطوا فيما أوجب الله عليهم، أو يتناولوا ما حرم الله عليهم، وبهذا يكون الدين حافزًا محركًّا لهم، ودليلًا يأخذ بأيديهم، وليس غُلًّا في أعناقهم، ولا قيدًا بأرجلهم، ويجيب هذا الفقه عن أسئلتهم المطروحة، ويعالج مشكلاتهم المتجددة، في مجتمع غير مسلم، وفي بيئة لها عقائدها وقيمها ومفاهيمها وتقاليدها الخاصة، في ضوء اجتهاد شرعي جديد، صادر من أهله في محله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.