فتاوى البنوك الإسلامية
- شكلت العديد من المؤسسات الاقتصادية والبنوك هيئات شرعية منفصلة خاصة بكل منها، تفتي في العديد من القضايا الاقتصادية المتعلقة بالأرباح والفوائد وغيرها.. فلماذا لا يتكون مجلس فتوى واحد يقدم آراءً فقهية موحدة حول الجوانب الاقتصادية؟ وما موقفكم من البنوك الإسلامية وتطويرها ووسائلها، وما يجري فيها؟
*من المعروف عني وعن تاريخي: أني أيَّدت البنوك الإسلامية منذ كانت فكرة في رؤوس بعض الاقتصاديين الإسلاميين، وحُلْما في نفوس بعض الرجال الإسلاميين، وكانت هناك دراسات قليلة تنشر هنا وهناك عن إمكان قيام بنوك بلا فوائد، ثم عن ضرورة إنشاء هذه البنوك، على المستوى النظري. ثم هيأ الله رجالا من أهل الفكر والنظر التقوا رجالا من أهل المال والعمل، وكان من ثمرات هذا اللقاء: تأسيس أول بنك تجاري إسلامي، وهو بنك دبي الإسلامي الذي تحمس له الرجل العملي المسلم الحاج سعيد لوتاه حفظه الله.
وقد دعاني إلى التعاون معه في أول الأمر، واعتبرني كأني مستشار للبنك تطوعا. ثم عقد البنك مؤتمره الأول الذي كان بحق أول مؤتمر للبنوك الإسلامية، دعا فيه عددا من العلماء المشغولين بفقه المعاملات وبالاقتصاد الإسلامي، وذلك في شهر مارس سنة 1975.
ثم نشأ بعد ذلك بنك فيصل الإسلامي المصري، وبنك فيصل الإسلامي السوداني، وبنك التمويل الكويتي، والبنك الإسلامي الأردني، وبنك البحرين الإسلامي، وتلاحقت بعد ذلك البنوك الإسلامية، مثل مصرف قطر الإسلامي، والمصرف الإسلامي الدولي في مصر، وغيرها.
وكان الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية – برئاسة الأمير محمد الفيصل، وأمانة د. أحمد عبد العزيز النجار يقوم بدور علمي ونظري في تسديد مسيرة البنوك الإسلامية، وأصدر موسوعة البنوك الإسلامية. وهي تضم أبحاثا ومؤشرات حول المصارف الإسلامية، وإن كان بعضها لم ينضج بعد.
وحاول د. النجار أن ينشئ معهدا لتخريج مصرفيين إسلاميين، أو تدريب العاملين في المصارف منهم. وتهيئة دراسات منهجية: شرعية واقتصادية ومحاسبية وإدارية وغيرها. وكان مقر هذا المعهد في قبرص. وقد استمر فترة من الزمن ثم توقف، لأن تكلفته كثيرة، بسبب موقعه.
ولقد حاولنا نحن القائمين على الجانب الشرعي والفقهي والدعوي، كما حاول الاتحاد أن يشد أزر البنوك الإسلامية، فأنشأ هيئة عليا للفتوى والرقابة الشرعية للبنوك، اختير الشيخ محمد خاطر مفتي مصر الأسبق ورئيس هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي المصري: رئيسا لها، واختاروني نائبا له. واجتمعنا في إسلام آباد في ضيافة ا لرئيس ضياء الحق رحمه الله. كما اجتمعنا في القاهرة واستانبول، وغيرهما، وقد استمرت هذه الهيئة عدة سنوات ثم توقفت، لعدم تجاوب البنوك الإسلامية معها لأسباب عدة.
ولا زلنا نرى أن تقوم هيئة عليا جديدة لبنوك الإسلامية، تستفيد من مجامع الفقه، ومن ندوات البركة، ومن فتاوى البنوك الإسلامية، وتخط لها خطا ظاهرا يسدد المسيرة.
ثم أنشئ مجلس للمعايير مهمته ترشيد المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية، ثم تطور إلى الهيئة العامة للمحاسبة للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، ويتبعها مجلس للمعايير. وقد اخترت في مجلس أمنائها لعدة سنوات، وكان مقرها البحرين، كما كان رئيسها الأخ الصديق، الشيخ إبراهيم آل خليفة حفظه الله. ونائبه صديقنا الاقتصادي الكبير الأستاذ الدكتور عبد العزيز حجازي رئيس وزراء مصر الأسبق، ونائب رئيس مجلس إدارة بنك فيصل الإسلامي المصري لعدة سنين.
ثم أنشئ في هذه الهيئة مجلس شرعي يضم عددا لا بأس به من علماء الشريعة المهتمين بفقه المصارف الإسلامية. وقد رشحت لرئاسة هذا المجلس فاعتذرت ورشحت له أخي العلامة الهندي الشيخ محمد تقي العثماني. وهو فقيه يجمع بين الأصالة والمعاصرة. ولا زال المجلس يعمل ويشرف على إصدار المعايير التي تصدر من الهيئة، وضبطها بضوابط الشرع. وقد صدر عنه عدة معايير لها وزنها وقيمتها العلمية والعملية.
تكاثر البنوك
وقد تكاثرت البنوك الإسلامية، وأصبحت تعد بالمئات، حتى أصبحت البنوك العالمية الأوربية والأمريكية، حريصة على أن تكون لها فروع إسلامية في البلاد العربية والإسلامية المختلفة. لما رأوا إقبال أبناء الشعوب الإسلامية على هذه البنوك، فلم يدعوا هذه السوق للمسلمين وحدهم، وقالوا: نضع لهم المعاملات التي يريدونها. وقد رأوها في واقع الأمر لا تختلف اختلافا جوهريا عن معاملاتهم، وهو ما سهل الأمر عليهم.
وقد دخلت على البنوك الإسلامية في السنين الأخيرة معاملات، جعلتها تتسم بالصورية والشكلية، وتقربها من البنوك الربوية، بحيث لا تكاد تجد فارقا جوهريا بينها وبين البنوك التي يفترض أنها كانت بديلا عنها.
والحقيقة أن البنوك الإسلامية لا تزال تعيش على هامش الاقتصاد الرأسمالي. لم تقدم اقتصادا بديلا عنه، يختلف عنه في أهدافه، وفي وسائله، وفي منطلقاته، وفي روحه.
ولو أن أستاذا اقتصاديا غربيا متعمقا دقق في الفروق الحقيقية بين البنوك التقليدية وما نسميه البنوك الإسلامية، لم يكد يجد فرقا جذريا، إلا بعض الجزئيات والشكليات. وخصوصا بعد أن توسع كثيرون في عملية المرابحة التي باتت هي أساس معاملات البنوك الإسلامية، ولم تعد تسمع عن المضاربات والمشاركات والبيوع والتجارات ونحوها، وليتهم يطبقون هذه المرابحة بشروطها وضوابطها كما تقرها الهيئات الشرعية. بل إن بعض الهيئات الشرعية أدخلوا فيها صورا غريبة يعجب المرء لها.
كما دخل التورق في معاملات كثير من المصارف، حتى سماه بعضهم (التورق المبارك) إلى غيرها من العقود والمعاملات.
مما جعلني أصرخ متخوفا من مصير هذه البنوك إذا استمر الحال على ما هو عليه، بل ربما تزداد تدهورا.
ومنذ سنوات دعا صديقنا الشيخ صالح كامل رئيس مجموعة بنوك البركة إلى ندوة في شهر رمضان المبارك يستصرخ فيها الغيورين على المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية، من معاملة (التورق) الذي غزا بعض البنوك الإسلامية، وكنت ممن استجاب له، ووقفت معه ضد هذا الغزو الخطير الذي يضرب البنوك الإسلامية من داخلها. وكان من أقوى الذين هاجموا هذا التوجه صديقنا العالم الفقيه الشيخ صالح الحصين حفظه الله.
ومنذ سنوات دعا صديقنا العلامة الشيخ تقي العثماني بعض الإخوة من الشرعيين، ومن رجال الاقتصاد، والتقى بنا هنا في قطر. وأصدرنا نداء للمخلصين، ولكل المؤمنين العاملين في هذا المجال: أن يستمسكوا بالخط الأوسط، وبالمنهج الوسط، الذي أوصانا الله تعالى به، حين قال: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [البقرة:143]. (يتبع)