تغير الفتوى

-سمعنا أن بعض العلماء له رأيان في المسألة الواحدة، وأن الشافعي له مذهبان قديم وجديد، وأنه غير اجتهاده عندما انتقل من العراق إلى مصر، فما هي موجبات تغير الفتوى في الإسلام؟

*تغير الفتوى آية مرونة، وآية سعة، تدل على أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، فلو شاء الله لجعل أحكام الشريعة كلها منصوصًا عليها نصًّا قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وبذلك لا يكون هناك مجال لاجتهاد أو استنباط، أو لاختلاف المشارب وتعدد المدارس، وتطور الآراء، وتغير الفتوى بتغيير الزمان والمكان والحال، وإنما هو حكم واحد ثابت مؤيد، لكن الله من رحمته وحكمته أن جعل أغلب نصوص الشريعة ظنية الدلالة، ومن هنا لم يجد المحققون من فقهاء المسلمين، في مختلف العصور أي غضاضة أو حرج في إعلان وجوب تغير الفتوى، بتغير الأزمنة والأمكنة والأعراف والأحوال، بل ومارسوه عمليا، فكما ذكرت، نجد الفقيه الواحد له في المسألة الواحدة أكثر من رأي، بل وجدنا للإمام الشافعي مذهبين قديمًا وجديدًا. يقول الإمام ابن القيم في فصل تغير والفتوى واختلافها: (هذا فصل عظيم النفع جدا، وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه : ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها التأويل).

- كثيرا ما نسمع عبارة (تطوير الفقه) فهل يعني هذا تغييرا في الأحكام؟

*كلمة (تجديد الفقه) أو تطويره لا تعني دائمًا تغييرًا في الأحكام، وإنما قد تعني أن نكتب الفقه بلغة العصر، أن نفك رموز الكتب القديمة ومصطلحاتها، لنكتبها بأسلوب يناسب أهل عصرنا وبمصطلحات ومفردات عصرنا، وأن نيسر الفقه لتطبيقه والعمل به بأن نرجع إلى منهج الأئمة المتقدمين والصحابة ومن بعدهم من فقهاء القرون المباركة الأولى، فقه التيسير، فهذا الدين قائم على اليسر ورفع الحرج عن المكلفين، كما دلت على ذلك النصوص المتوافرة من القرآن والسنة، والرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بالتيسير لا التعسير، فقال: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا". وقال: "إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين". وكان من أوصافه عليه السلام: أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا. وعصرنا هذا خاصة أحوج ما يكون إلى فقه التيسير، لغلبة المادية على العقول، وغلبة الشهوات على الأنفس، وازدحام الحياة المعاصرة بأمور كثيرة: شغلت الناس عن دينهم، وعن حق ربهم عليهم، فكان علينا- أهل العلم والدعوة- أن نمسك الناس على الدين، ولو بخيط دقيق، حتى لا يتفلتوا منه سراعًا، وأن نحبب الله جل وعلا إليهم بتخفيف تكاليفه عليهم، ما وجدنا إلى ذلك سبيلا.

- هل كل أمور الشريعة قابلة للاجتهاد؟ أم أن هناك مناطق يجوز الاجتهاد فيها ومناطق أخرى ينبغي التوقف عندها وعدم الخوض فيها؟

*الإسلام فيه منطقتان: منطقة مغلقة لا يجوز لأحد مهما علا كعبه في العلم، ودرجته في التقوى، أن يجتهد فيه أو يطور أو يجدد، هي منطقة لا يدخلها الاجتهاد ولا التغير بحال, وهى منطقة (القطعيات) التي قال فيها الإسلام كلمته البينة الحاسمة سواء في مجال العقائد أو العبادات أم الأخلاق أو التشريع، وهى تمثل (الثوابت) التي تجسد الوحدة العقدية والفكرية والشعورية والسلوكية للأمة المسلمة، وعليها الاجتماع اليقيني القطعي.

وهناك منطقة أخرى مفتوحة لأهل الاجتهاد الذين امتلكوا آلته، يتغير فيها الحكم، وتتغير فيها الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف، وهي منطقة الظنيات، الأمور التي ليس فيها نص، أو الأمور التي يحتمل فيها النص أكثر من وجه وأكثر من دلالة وهذا هو أكثر الشريعة.

فتاوى شاذة

- ابتلينا في هذه الأزمان بالكثير من الفتاوى التي يراها كثير من المسلمين شاذة، فكيف نحكم على الفتوى بالشذوذ؟ ولماذا يقع المفتي في الشذوذ؟

*الفتوى الشاذة هي التي شذَّت عن المنهج الصحيح في استباط الأحكام، ولهذا فهي محكوم عليها بالخطأ في نظر من يعتبرها شاذة، وهي في تراثنا الفقهي قليلة، بل نادرة. وفي عصرنا كثيرة ومنتشرة، وذلك لأسباب كثيرة، منها: أن تصدر الفتوى من غير أهلها، أو لا تراعي تغير الزمان والمكان والحال، وعدم فقه الواقع، وقد يكون نتيجة القصور في البحث، أو عدم فهم الأدلة، أو اتباع الهوى، وربما كانت نتيجة لقياس خاطئ، كمن قال لا ربا بين الدولة والمواطن، قياسا على ما قاله بعض الفقهاء: لا ربا بين الوالد وولده. وكلاهما لا أساس له.

ونحكم على الفتوى بالشذوذ إذا صدرت في غير محلها، بأن كان موضوعها من المسائل المقطوع بحكمها في الشريعة، المعلومة للعلماء الثابتة بالأدلة القطعية، ثم يأتي من يجتهد فيها من جديد، ليستخرج لها حكمًا يخالف ما استقر عليه الفقه، واستمر عليه العمل، وثبت بالإجماع اليقيني. ونحكم بالشذوذ إذا كانت الفتوى مخالفة لنص قرآني؛ كمن يفتي بتحريم تعدد الزوجات، أو المساواة بين البنت والابن في الميراث. أو كانت مخالفة لحديث نبوي صحيح؛ كفتوى إباحة التماثيل إباحة مطلقة. أو مخالفتها للإجماع المتيقن؛ كفتوى الشيخ الألباني بتحريم الذهب المحلَّق على النساء.(يتبع)