استفت قلبك

 - هناك مقولة شائعة: استفت قلبك. هل هذا حديث صحيح، وما المراد منه؟

*مقولة (استفت قلبك) هي جزء من حديث رواه الإمام أحمد والدارمي عن وابصة مرفوعا بإسناد فيه ضعف، ونص الحديث: "استفت قلبك واستفت نفسك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك".

وهذا الحديث وإن كان سنده يدور بين الضعف والحسن، فإنه صحيح المعنى، ومعناه أن على المستفتي أن يتقي الله ويراقبه في استفتائه إذا استفتى، ولا يجعل الفتوى ذريعة إلى أمر يعلم من قرارة نفسه أنه غير جائز شرعًا، وإنما لبَّس على المفتي، وغرَّه بزخرف القول، أو بإخفاء عنصر له تأثير في تكييف القضية المسؤول عنها، فيجيب المفتي بما يظهر له، غير متفطن إلى خبايا الموضوع وخلفياته. ولو عرضت عليه القضية بوضوح، لا تلبيس فيه ولا تمويه، وظهر له من خباياها ما أخفى السائل عنه، لغيَّر فتواه.

فلا يخدعن المستفتي نفسه، ويحلل لها ما يوقن- بينه وبين نفسه- أنه حرام، لمجرد أنه حصل في يديه فتوى من هذا الشيخ أو ذاك، هي- في واقع الأمر- في غير موضوعه، أو في غير حالته.

وكل فتوى تحوك في صدر المستفتي، ولا تطمئن إليها نفسه، ولا يستريح إليها ضميره، لسبب من الأسباب المعتبرة، يجب أن يتوقف عن العمل بها، حتى تتضح له الرؤية، ويصل إلى مرحلة الاطمئنان النفسي، بأن يسأل أكثر من مفتٍ، أو يعاود المفتي الأول مرة بعد أخرى، حتى يزول التردد بالتثبُّت، وينقطع الشك باليقين، ما وجد إلى ذلك سبيل. فالقلب- أو الضمير بتعبير عصرنا- هو المفتي الأول في هذه الأحوال، كما في الحديث.

يقول العلامة ابن القيم: (لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي، إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله، وتردَّد فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك").

فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولا، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي بذلك.

- ما أسباب انحراف الفتوى عن الجادة؟ أو ما هي مزالق المتصدين للفتوى؟

*أول هذه المزالق: الغفلة عن النصوص الشرعية أو الجهل بها، وعدم الإحاطة بها وتقديرها حق قدرها، وخصوصا إذا كان من يتعرض للفتوى من الجرآء المتعجِّلين، كالذين يريدون أن يملؤوا أنهار الصحف أو المجلات بأي شيء، دون أن يجشم نفسه عناء الرجوع إلى المصادر، والبحث عن الأدلة في مظانها، ومراجعة الثقات من أهل العلم، كمن كتب بجواز لبس (الباروكة) للمرأة، وأنها تغني عن تغطية الرأس، ولو قرأ من قال بهذا صحيح البخاري وحده، لوجد فيه من الأحاديث الصريحة الناهضة ما يقطع بحرمة هذا الصنيع.

ومنها: سوء التأويل، فقد لا يأتي الخطأ من عدم استحضار النص، ولكن من سوء تأويله، وفهمه على غير وجهه، اتباعا لشهوة، أو إرضاء لنزوة، أو حبا لدنيا، أو تقليدا أعمى للآخرين.

ومن أشد المزالق خطرًا على المفتي أن يتَّبع الهوى في فتواه، سواء هوى نفسه أو هوى غيره، وبخاصة أهواء الرؤساء وأصحاب السلطة، الذين تُرجَى عطاياهم، وتُخْشَى رزاياهم، ورأينا من هؤلاء من أصدروا فتوى مطولة مفصلة، معللة مدللة، بتحريم الصلح مع العدو الغاصب لأرض المسلمين، دامغين بالفسق بل بالكفر، وخيانة الله ورسوله والمؤمنين، من يستحل ذلك من الزعماء والحكام، ولم تمض سنوات قلائل، حتى أصدر هؤلاء أنفسهم فتوى أخرى مناقضة للأولى، تجوِّز ما منعوه، وتحلِّل ما قد حرموه من الصلح، ولم يتغير شيء في الموقف إلا تغير رياح السياسة، وأهواء الحاكمين.

ومما يدخل في اتباع الهوى: الترجيح بين الأقوال المختلفة، والآراء المتباينة، بغير مرجِّح من دليل نقلي، أو نظر عقلي، أو اعتبار مصلحي، إلا مجرد الميل النفسي إلى ذلك القول، ولعله أضعف الأقوال حجة، وأسقطها اعتبارًا، أو لعله من زلات العلماء، وزيغات الحكماء، التي جاء التحذير منها في غير ما حديث.

ضغط الواقع

ومن المزالق التي تزل فيها أقدام المفتين في عصرنا: الخضوع لضغط الواقع الماثل بما فيه من انحراف عن الإسلام، وتحد لأحكامه وتعاليمه، ولهذا رأينا بعض المشتغلين بالفقه والفتوى أيام سطوة الرأسمالية يجهدون أنفسهم في تبرير البنوك الربوية الرأسمالية، وبذل المحاولات المستميتة لتحليل الفوائد، رغبة في إعطاء سند شرعي لبقاء هذه البنوك واستمرارها مع رضا الضمير الإسلامي عنها. وهيهات.

وفي أيام سطوة الاشتراكية، وجدنا كتبا ورسائل وبحوثا ومقالات وفتاوى تصدر من مشايخ وأشباه مشايخ، لتبرير التأميمات والمصادرات بحق وبغير حق، ولا أتحدث هنا عن المأجورين ممن يبيعون دينهم بدنياهم أو بدنيا غيرهم، ويشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا، وإنما أتحدث عن المخلصين الذين لا يزال دينهم أعز عليهم من كل شيء، ولكن الواقع يضغط عليهم بقوة، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فهم يركبون الصعب والذلول لتطويع النصوص للواقع، على حين يجب أن يطوَّع الواقع للنصوص؛ لأن النصوص هي الميزان المعصوم الذي يحتكم إليه ويعوَّل عليه، والواقع يتغير من حسن إلى سيئ، ومن سيئ إلى أسوأ أو بالعكس، فلا ثبات له ولا عصمة.

ومن مزالق الفتوى: الجمود على ما سطر في كتب الفقه، أو كتب الفتاوى منذ عدة قرون، والإفتاء بها لكل سائل دون مراعاة لظروف الزمان والمكان والعرف والحال، مع أن هذه كلها تتغير وتتطور، ولا تبقى جامدة ثابتة أبد الدهر، من ذلك ما يذكره بعض أهل الفتوى مما نصت عليه كتب الفقه: أن حليق اللحية لا تقبل شهادته. ومهما يكن رأينا في حلق اللحية وتأثيم فاعلها- وهو أمر اختلف فيه القدماء والمعاصرون- فنحن لا نستطيع رد شهادة الحليق، لعموم البلوى به، وعموم البلوى من أسباب التخفيف والرخص كما هو معلوم. ولو أخذنا بالرأي المدون في الكتب لأوشكنا أن نعطل المحاكم في أداء وظيفتها في الفصل في الخصومات والقضاء بين الناس وإقامة العدل. (يتبع)