الوسطية
- سماحة الشيخ القرضاوي أنت دائما ما تنادي بالوسطية .. ولكن في مقابل ذلك هناك من يتهمك بأنك من المتشددين بل من غلاة المتشددين في الفتاوى وغيرها ؟
* لا بالعكس أنا وسطي ولكن هناك بعض الأشياء لابد أن أقول الحق فيها ..ولكن أنا لست من المتشددين أبدا .. وأنا مع الخط الوسط في كل القضايا بين الغلاة والمفرطين في قضايا المرأة والشباب والزواج والطلاق والقتال والجهاد والقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وعندما كنت في البنوك الإسلامية كنت أقف الموقف الوسط.. لا أتجه إلى الذين يحللون كل شيء، ولا إلى الذين يحرمون كل شيء.
- هناك بعض الدول تتهمك بأن لديك فتاوى بتحليل الدم والقتل ؟
*لا أفتى بالقتل .. ولكن الذين يقتلون الناس بالآلاف ألا يستحقون القتل ..وهناك قضاة يقتلون الناس بالمئات .. فالأصل أن القاضي ينظر في قضية القتل سنين حتى يحكم .. ولكن هناك قضاة يحكمون بالقتل بالمئات دفعة واحدة ..ما هذا ؟ هؤلاء القضاة الذين يحكمون على الناس بالباطل لابد أن يحاكموا لإنصاف المظلومين ورد حقوقهم .. هؤلاء يظنون أن الأمر سهل .. ولن يتركهم الله أبدا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما " وهذا حديث نبوي مروي عن سيدنا عبد الله بن عمر رضى الله عنه .. فاذا اصاب دما حراما ضاقت عليه الدنيا وضاق عليه كل شيء .
الفتوى والمفتي
- فضيلة الشيخ ، ما الفرق بين الحكم والفتوى؟ وهل تتغير الأحكام أم تتغير الفتاوى؟
الحكم الشرعي عند جمهور الأصوليين هو: خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا. أما عند الفقهاء فهو: أثر خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا، بمعنى الحكم عليها بأحد الأحكام الخمسة وهي الوجوب أو الندب أو الإباحة أو الكراهة أو التحريم.
أما الفتوى فهي: بيان الحكم الشرعي في قضية من القضايا جوابا على سؤال سائل، معين أو مبهم، فردًا كان أو جماعة. يعني تنزيل الحكم على الواقع، بحيث تكون الفتوى مناسبة للحكم ومناسبة للواقعة.
-ما هي شروط من يتصدى للفتوى؟
الفتوى لا تكون إلا من أهلها، وكان السلف رضوان الله عليهم ينكرون أشد الإنكار على من اقتحم حمى الفتوى ولم يتأهل لها، ويعتبرون ذلك ثُلمة في الإسلام، ومنكرًا عظيمًا يجب أن يُمنع. وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا، اتخذ الناس رؤوسا جُهَّالًا، فسُئِلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".
ومن ثم قرر العلماء: أن من أفتى وليس بأهل للفتوى، فهو آثم عاص، ونقل ابن القيم عن أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله قال: ويلزم ولي الأمر منعهم، كما فعل بنو أمية. قال: وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالًا من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبيب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟!
وأهم الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يتصدى للفتوى:
الثقافة الإسلامية، ونعني بها الثقافة الشرعية العميقة، بالإضافة إلى معرفة واقع الناس وأحوالهم، وأن يكون ديِّنا متخلقًا بأخلاق الإسلام وآداب العلماء، وهو ما يطلق عليه: العدالة.
- ما هي الثقافة التي ينبغي أن يتحلى بها المفتي؟
أولًا: الثقافة الشرعية، بأن يكون على قدر كبير من العلم بالإسلام، وخصوصًا علم الفقه وأصوله وقواعده، والإحاطة بأدلة الأحكام، والدراية بعلوم العربية، وامتلاكه لمَلكة الفقه والاستنباط.
فلا يجوز أن يفتي الناس في دينهم من ليس له صلة وثيقة، وخبرة عميقة، بمصدريه الأساسيين: الكتاب والسنة.
ولا يجوز أن يفتي الناس مَن لم تكن له قدرة على فهم لغة العرب وتذوقها، ومعرفة علومها وآدابها، حتى يقدر على فهم القرآن والحديث.
ولا يجوز أن يفتي الناس مَن لم يتمرس بأقوال الفقهاء، ليعرف منها مدارك الأحكام، وطرائق الاستنباط، ويعرف منها كذلك مواضع الإجماع ومواقع الخلاف.
ولا يجوز أن يفتي الناس مَن لم يتمرس بعلم أصول الفقه، ومعرفة القياس والعلة، ومتى يستعمل القياس، ومتى لا يجوز.
ويجب فيمن يتصدر للفتوى أن يكون عالما بمقاصد الشريعة، وعلل الأحكام، فمَن عاش مع ظواهر النصوص وحرفيَّتها، ولم يكن له التفات إلى أسرارها ومقاصدها: لم يُحسن الفتوى في دين الله.
قيل للإمام عبد الله بن المبارك: متى يفتي الرجل؟ قال: إذا كان عالما بالأثر، بصيرا بالرأي.
وبهذا لا يكفي الأثر دون الرأي، ولا الرأي دون الأثر.
وأن يكون ممن عايش الفقهاء في كتبهم وأقوالهم، واطلع على اختلافهم، وتعدد مداركهم، وتنوع مشاربهم، ولهذا قالوا: مَن لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه!
ولا بد للمفتي من ثقافة عامة، تصله بالحياة والكون، وتطلعه على سير التاريخ، وسنن الله في الاجتماع الإنساني، حتى لا يعيش في الحياة وهو بعيد عنها، جاهل بأوضاعها، وأن يكون ذا بصيرة ومعرفة بالحياة وبالناس، فلا يجوز أن يفتي الناس من يعيش في صومعة حسية أو معنوية، لا يعي واقع الناس، ولا يحس بمشكلاتهم، فالمفتي يجب أن يكون واعيا للواقع، غير غافل عنه، حتى يربط فتواه بحياة الناس، فهو لا يكتب نظريات، ولا يلقي فتواه في فراغ، ومراعاة الواقع تجعل المفتي يراعي أمورا معينة، ويضع قيودا خاصة، وينبه على اعتبارات مهمة .
ومن أمانة المفتي وتقواه، أن يحيل سائله إلى من هو أعلم منه بموضوع الفتوى ولا يجد في ذلك حرجا في صدره، سئلت عائشة أم المؤمنين عن المسح على الخفين، فقالت للسائل: سل عليًّا، فإنه أعلم مني بهذا، وقد كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك، أن يسأل هو إخوانه من أهل العلم ويشاورهم، ليزداد استيثاقا واطمئنانا إلى الأمر، كما كان يفعل عمر، حيث يجمع علماء الصحابة ويشاورهم، بل كان يطلب رأي صغار السن فيهم مثل عبدالله بن عباس، الذي قال له مرة: تكلم ولا يمنعك حداثة سنك.
ومن هذا الجانب الأخلاقي: أن يرجع عن الخطأ إذا تبين له، فالرجوع إلى الحق خير له من التمادي في الباطل، ولا إثم عليه في خطئه، لأنه مأجور عليه، وإنما يأثم إذا عرفه ثم أصر عليه عنادًا وكبرًا، أو خجلًا من الناس، والله لا يستحي من الحق.
وقد كان بعض السلف يفتي سائله، فإذا تبين له خطؤه أمر من ينادي في الناس بأن فلانا الفقيه أفتى اليوم خطأ. ولا يبالي بما يقول الناس.
ومن أخلاقيات المفتي: أن يفتي بما يعلم أنه الحق، ويصر عليه، ولو أغضب من أغضب من أهل الدنيا، وأصحاب السلطان، وحسبه أن يرضي الله تبارك وتعالى. وكل الذي فوق التراب تراب.
- ما هي اقتراحاتكم لإعداد جيل من المفتين القادرين على الإفتاء وفق منهج صحيح؟
إعداد عدد من المفتين قادر على إفتاء الناس فيما يسألون، خاصة في النوازل، هو فرض كفاية يدل على هذا قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة:122).
فلم يوجب على الجميع النفير لطلب العلم، إنما أوجبه على طائفة في كل فرقة. سواء أكانت هذه الطائفة اثنين أو أكثر أو أقل، ما دامت تكفي لوظيفة الفقه والإنذار، كما يدل عليه الحديث الذي ذكرناه آنفًا: "حتى إذا لم يبق عالمًا، اتخذ الناس رؤوسا جهَّالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا". (يتبع)