الشيخ القرضاوي في لقاء "الشرق" الشهري الأول

أجرت صحيفة الشرق القطرية هذا الحوار مع سماحة الشيخ:

جابر الحرمي - طه حسين - محمد دفع الله

منذ سنوات ونحن نسعى في "الشرق" الى ان نقترب من علم وفقه سماحة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي - أمد الله في عمره - لنقتبس من علمه الكثير مما لايتيحه مجال المتابعات أو الندوات أو اللقاءات التي يشارك فيها فضيلته ، وكثيرا ماكنا نلح على فضيلته بتخصيص لقاء شهري لـ الشرق نطوف من خلاله في أحوال العالم العربي والاسلامي وأحوال الدعوة والدعاة، حتى تحقق لنا ماكنا نسعى اليه حيث وافق فضيلته - حفظه الله - على تخصيص لقاء شهري حصري ل الشرق ، نخصص في كل لقاء موضوعا للقاء ، نتناوله من شتى جوانبه طارحين الأسئلة التي يطرحها الجمهور حول موضوع اللقاء ويكرمنا شيخنا وعالمنا بما يفيض الله عليه من علمه وفضله ، وحقيقة فإن حصيلة اللقاء ربما تتجاوز هذه المساحة لكننا حرصنا على أن ننقل للقارئ هذه الغنيمة الفقهية العظيمة التي تغني الكثير ممن يبحث ويتطلع الى علم الشيخ وفقهه وما يفيض الله به عليه .

وقد كان الاتفاق مع الدكتور حسن فوزي مدير مكتب فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي على ان يكون اللقاء بعيدا عن السياسة مركزا على القضية موضوع اللقاء ، لكن لأن "ديننا سياسة وسياستنا دين " فقد كان من الصعب الابتعاد كليا عن السياسة لكننا بعدنا عنها قدر الإمكان حتى يكتسي اللقاء بطابعه الفكري بعيدا عن " ساس ويسوس" ، خاصة في اللقاء الأول مع سماحة الدكتور القرضاوي والذي خصصنا للحديث عن الفتوى والمفتين ، فقد ابتلي عالمنا العربي والاسلامي بفوضى في الفتاوى طالت كل شيء واختلطت الآراء السياسية بالفتاوى الفقهية وانتشر " ترزية " الفتوى الذين أطلقوا تعبيرات انتشرت كالنار في الهشيم ومنها " اضرب في المليان " التي أباح صاحبها للجنود اطلاق النار على الناس والابرياء تماما كما صدرت أحكام قضائية تقضي بالاعدام على العشرات في جلسة واحدة ليجتمع القاضي والمفتي في حضرة السلطان على القتل واباحة الدم .

قضايا فقهية التبست بالسياسة نتناولها مع سماحة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في لقاء الشرق الاول فإلى الحوار ..

* في بداية اللقاء قال فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي: إننا نحيي جريدة الشرق لمواقفها من قضايا الربيع العربي واصطفافها الى جانب الشعوب العربية في حقوقها المشروعة وفي موقفها من القضايا الاسلامية وحرصها على تعزيز القيم العربية والاسلامية والاخلاقية وهو أمر لابد ان نعترف بأن الشرق لها موقف جيد من هذه القضايا ونحن نحمد هذا الامر، ونشيد به، وننوه بمواقف الشرق منذ زمن تجاه هذه القضايا ، ونشكر لقطر اهتمامها بالقضايا العربية والاسلامية الكبيرة وفي مقدمتها قضية فلسطين والقدس وغزة . سائلا الله الثبات على الخير والتمسك به .

ليسوا أهل علم

-  شيخنا الجليل أحد الاسباب التي ربما مكنت للظلم خروج بعض المحسوبين على الفتوى بفتاوى تبيح للظالم ان يتمادى في ظلمه وتبارك خطواته مثلما حدث في مصر حيث خرج بعض العلماء وباركوا الخطوات التي قام بها الانقلاب ألا تمثل مثل هذه الفتاوى تعزيزا للظلم والقتل ؟

* قطعا هذا ظلم.. وتلك فتاوى خرجت من اناس ليسوا أهل علم شرعي موثق مبني على الادلة من القرآن والسنة والاجماع ، هذا علم للأسف يتبع الهوى وأي علم في اتباع الشيطان ؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله لاينتزع العلم انتزاعا ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى اذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوهم " ، وأحيانا يحرفون الكلم عن مواضعه، فيقلبون الحق باطلا والباطل حقا ، فأمثال هؤلاء الذين يستدعيهم الحاكم ويصفقون لما يقول. هؤلاء ليسوا رجال الدين والعلم ، بل الدين مهمته ان ينهر من مشى مع الشيطان الا يتبع الهوى فيضله عن سبيل الله ، هذه مشكلة الذين وضعوا على رأس القمة من قبل الحكام ولم تضعهم الشعوب .

- إذن أنت تطالب بعودة اختيار شيخ الازهر بالانتخاب وليس بالتعيين؟

* هذا ما كان في السابق، وهو الصحيح.. لكن للأسف الآن تختاره الدولة، ويظل طول حياته، ثم هو الذي يختار هيئة كبار العلماء. وكنت منهم لكني استقلت من هذا وقلت لايسرني ان اكون عضوا في هيئة تستغلها الدولة بهذا الطريقة، وتوظف الدين كما تريد.

لابد من الإصلاح في كل شيء .. ولا بد من إزالة الفساد وإزالة رؤوس الفساد الذين أفسدوا الدنيا. لابد من إعادة العلماء الجيدين الذين تم إبعادهم، من مراكزهم، وإبعاد تلك القيادات الدينية التابعة لهوى السلاطين وأوامره.

لابد أن يختار قيادات العمل في الفتوى من كبار العلماء .. على أن يختارهم العلماء لا أن يختارهم شيخ الأزهر.. فشيخ الأزهر يختار القريبين منه .. الذين يعملون ما يريد .. وشيخ الأزهر نفسه يجب أن يتم إختياره .

- هناك ظاهرة اخرى وهي تفصيل الفتاوى حسبما يريده الحاكم ؟

* طبعا هؤلاء يقدمون فتاوى على قدر المقاس وهم ترزية الحكام الذين يروجون الباطل للحاكم ويخدعون الشعوب .

- هناك أيضا شيخنا فتاوى تبيح الدم والقتل ألا تسيء تلك الفتاوى إلى الاسلام؟

*هؤلاء يسيئون الى الاسلام والى الاديان والى العلم والى الحق. والفتاوى لها أسسها وأدلتها وقواعدها ، والصحابة كانوا اذا سئلوا عن الفتوى يهربون من الاجابة عنها؛ مخافة ان يقول شيئا يحاسبه الله عليه ، فما بالك في فتوى تبيح دم انسان بريء ؟ او تبيح لظالم ان يقتل مجموعة من الناس ؟ هؤلاء الناس لا يخافون الله، نحن جعلنا شعارنا في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين قول الله تعالى في سورة الاحزاب " الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله " هذا هو المطلوب في العالم والداعية في الفتوى والدعوة، فالشيخ يجب ان يتثبت في الفتوى، فلا يفتي الا ومعه الدليل من القرآن والسنة واقوال الصحابة وآراء العلماء الربانيين. ، لكن هؤلاء الذين يفتون بسفك الدماء وإزهاق الارواح ليس معهم شيء من تلك القواعد والشروط فهم علماء السلطة وعملاء الشرطة . وليسوا علماء عند الله ولا عند اهل الحق .

- هل تعتقد ان هناك فوضى في الفتوى في العالم الاسلامي الآن ؟

* كنا في السعودية قبل سنتين او ثلاث في مؤتمر للفتوى وقلت لهم اننا في حاجة الى ان ننشيء معهدا أعلى للفتوى ، ففي مصر استحدثوا ثلاثة تخصصات والازهر كان قديما يدرس كل شيء فلما انشؤوا الازهر الجديد عملوا ثلاث كليات: الشريعة، واصول الدين، واللغة العربية .أصول الدين للعقائد، وما يتبعها من مصادر للحديث والتفسير. والشريعة ليست للعقائد وانما للشرائع وما يتعلق بالفقه واصوله.

واللغة العربية للنحو والصرف والبلاغة والادب واللغة ، وانشأ الازهر تخصصات احدها يتبع كلية اصول الدين، وهو تخصص الدعوة والارشاد. وتخصص يتبع الشريعة الاسلامية ، وهو تخصص القضاء ليخرج قضاة. وهناك تخصص التدريس في الكليات الثلاث بعد التخرج. وقلت: ان هناك تخصصا ناقصا ينبغي ان يوضع في تخصصات الازهر، وهو تخصص الفتوى ويتبع كلية الشريعة التي كانت بحاجة الى تخصصين: تخصص لمن يشتغل بالقضاء، وتخصص لمن يشتغل بالفتوى ، بل ان حاجة الناس الى من يشتغل بالفتوى اكثر من حاجتهم الى القضاء، فليس كل الناس يحتاج الى القضاء؛ لكن كل الناس يحتاجون الى الفتوى. والقضاء ربما نحتاجه مرتين في السنة، وقد لانحتاج اليه.

أما الفتوى فنحتاج اليها وباستمرار ، ولذلك يجب ان يتم انشاء معهد عال خاصة في بلاد مثل السعودية او باكستان او اندونيسيا وماليزيا وتخصصه للفتوى وليدرس الفتاوى القديمة والحديثة والشاذة والمستقيمة ومعرفة الاشياء التي يجب ان يدرسها المفتي ، فالمفتي في حاجة لأشياء، الواعظ ليس في حاجة اليها ، ولا بد ان يدرس كتب الفقه والاصول والقواعد الفقهية وكتب الفتاوى فلابن تيمية وحده كتاب للفتاوى يقع في 37 مجلدا وهناك غيره من القدماء والمحدثين الكثير، ولا بد ان يدرس القديم والحديث ليرى المطلوب عند الناس .

- وما المانع ان يتم انشاء مثل ذلك المعهد ؟

* انا قلت ذلك، ولكن من يتبنى ذلك الامر ؟!

موقف قوي

- هل هذه الفوضى ترجع لغياب المرجعية ؟

* هذا من ضمن الاسباب ومن ضمنها ايضا تلاعب الحكام بالعلماء ، فالعلماء لم يعودوا من القوة حتى يستطيعوا أن يقفوا موقفا محددا ويقولوا: هذا حرام، وهذا فرض، وهذا جائز، وهذا مكروه، وهذا وفق السنة .. فالعالم لابد أن يقف موقفا يتشبث به ولا يبالي. وهكذا فعل مشايخنا .. فالشيخ عبد المجيد سليم كان شيخ الأزهر كانت له آراء ضد الملك. وقد قال يوما بشأن ميزانية الأزهر أنها صارت ناقصة حيث: تقتير هنا وإسراف هناك .. ووقتها كان الملك ذاهب إلى إيطاليا لقضاء الصيف والتنزه وفي الوقت ذاته كانت ميزانية الأزهر قليلة غير كافية. وكان الشيخ خضر حسين يقول : اذا لم يزد الأزهر في عهدي فلا ينقص منه . وبالتالي كل عالم لابد أن يكون له موقف قوي لا أن تكون الموافقة على كل شيء .

- ما هو دور اتحاد علماء المسلمين في هذا الجانب ؟ هل يدعو الاتحاد إلى تأسيس أكاديمية تكون مهمتها وضع العلامات البارزة التي يمكن أن يسير عليها العلماء في الفتوى ؟

* نعم نحن نحاول .. ولكن هناك مؤسسات كبيرة تنفق عليها الدول في كل بلد .. وفي الأزهر في مصر يوجد مئات الآلاف من العلماء فكيف هؤلاء يتخرجون ولا يكون منهم رجال فتوى .. وهل نعين نحن من اتحاد العلماء مفتين .. بالتأكيد لن نستطيع أن نفعل ذلك . الذي نفعله نحن هو أننا نبين للعلماء حتى يثوروا على هذا الوضع- وهم الآن ثائرون -كما يثورون على الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون . ولكن هذه الأشياء تحتاج إلى تغيير مناهج وأساتذة وتغيير أنظمة وتغيير امتحانات .. واذا أردت أن تغير فلابد أن يكون لك كيان .

لا تعذبوا بعذاب الله

-بعض الجماعات تقوم هذه الأيام بحرق المسلمين وحتى المسيحيين استنادا إلى فتاوى صحيحة في نظرهم.. فهل هناك فتاوى تجيز حرق الإنسان ؟

* قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تعذبوا بعذاب الله " .. ومعروف أن بعض الناس ادعوا ألوهية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فوعظهم، ونهاهم فلم ينتهوا، فأمر بإحراقهم بالنار. لكن عبد الله بن عباس قال: " إن الرسول قد نهى عن هذا " فامتنعوا بعدها ولم تحدث غير هذه القضية .

ولم يحدث أن أحرق سيدنا أبوبكر الصديق، أو خالد بن الوليد أو غيرهما من الصحابة رضي الله عنهم أحدا من الناس.. وكل ما قيل في ذلك هي أحاديث موضوعة وأكاذيب .

- لكن المشكلة أنه لا توجد بين أهل السنة جهة محددة للفتوى حتى يلتزم بها جميع الناس على مختلف مذاهبهم ؟

* للأسف أهل السنة تنقصهم أشياء كثيرة .. كثيرون يفتون ويختلفون بعضهم عن بعض .

-وعلى عكس أهل السنة أهل المذاهب الأخرى " الشيعة " مثلا تكون لهم مرجعية واحدة في الفتوى .. فلماذا لا يلتزم أهل السنة بمرجعية واحدة ؟

* في كل مكان في العالم كل شيعي له مرجعية خاصة.. وهذا يدعونا للقول لابد من تنظيم الفتوى والمفتين، وأن تكون لهم مرجعية تعلم الناس الفتوى .

- هل ترى أن الإعلام والفضائيات ساعدا في عملية فوضى الفتوى ؟

* أن تفتح الباب لكل الناس للفتوى فهذه مشكلة.. ونحن بقينا سنين نعمل على هذه القضية .. وقد قال صاحب السمو الأمير الوالد حفظه الله يوما لي : " جزاك الله خيرا فقد سددت خطى الشعب هنا في قطر، في حين تجد في البلاد الأخرى الغلو والتشدد، وما ينجم عنهما من تفجيرات وغيرها. وقال سموه " أنه بسبب القرضاوي الذي يقدم برامجه من خلال الإذاعة والتلفزيون منذ بدء عملهما، ومن خلال خطب الجمعة والدروس، فقد عُرف القطريون بالاعتدال والوسطية " .. ولكن هناك غيرنا ممن يقولون ما يريدون، لذا فقد اختلطت الأمور .

أنا وسطي

- سماحة الشيخ القرضاوي أنت دائما ما تنادي بالوسطية .. ولكن في مقابل ذلك هناك من يتهمك بأنك من المتشددين بل من غلاة المتشددين في الفتاوى وغيرها ؟

* لا بالعكس أنا وسطي ولكن هناك بعض الأشياء لابد أن أقول الحق فيها ..ولكن أنا لست من المتشددين أبدا .. وأنا مع الخط الوسط في كل القضايا بين الغلاة والمفرطين في قضايا المرأة والشباب والزواج والطلاق والقتال والجهاد والقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وعندما كنت في البنوك الإسلامية كنت أقف الموقف الوسط.. لا أتجه إلى الذين يحللون كل شيء، ولا إلى الذين يحرمون كل شيء.

- هناك بعض الدول تتهمك بأن لديك فتاوى بتحليل الدم والقتل ؟

*لا أفتى بالقتل .. ولكن الذين يقتلون الناس بالآلاف ألا يستحقون القتل ..وهناك قضاة يقتلون الناس بالمئات .. فالأصل ان القاضي ينظر في قضية القتل سنين حتى يحكم .. ولكن هناك قضاة يحكمون بالقتل بالمئات دفعة واحدة ..ما هذا ؟ هؤلاء القضاة الذين يحكمون على الناس بالباطل لابد أن يحاكموا لإنصاف المظلومين ورد حقوقهم .. هؤلاء يظنون أن الأمر سهل .. ولن يتركهم الله أبدا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما " وهذا حديث نبوي مروي عن سيدنا عبد الله بن عمر رضى الله عنه .. فاذا اصاب دما حراما ضاقت عليه الدنيا وضاق عليه كل شيء .

الفتوى والمفتي

- فضيلة الشيخ ، ما الفرق بين الحكم والفتوى؟ وهل تتغير الأحكام أم تتغير الفتاوى؟

*الحكم الشرعي عند جمهور الأصوليين هو: خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا. أما عند الفقهاء فهو: أثر خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا، بمعنى الحكم عليها بأحد الأحكام الخمسة وهي الوجوب أو الندب أو الإباحة أو الكراهة أو التحريم.

أما الفتوى فهي: بيان الحكم الشرعي في قضية من القضايا جوابا على سؤال سائل، معين أو مبهم، فردًا كان أو جماعة. يعني تنزيل الحكم على الواقع، بحيث تكون الفتوى مناسبة للحكم ومناسبة للواقعة.

-ما هي شروط من يتصدى للفتوى؟

الفتوى لا تكون إلا من أهلها، وكان السلف رضوان الله عليهم ينكرون أشد الإنكار على من اقتحم حمى الفتوى ولم يتأهل لها، ويعتبرون ذلك ثُلمة في الإسلام، ومنكرًا عظيمًا يجب أن يُمنع. وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا، اتخذ الناس رؤوسا جُهَّالًا، فسُئِلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".

ومن ثم قرر العلماء: أن من أفتى وليس بأهل للفتوى، فهو آثم عاص، ونقل ابن القيم عن أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله قال: ويلزم ولي الأمر منعهم، كما فعل بنو أمية. قال: وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالًا من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبيب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟!

وأهم الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يتصدى للفتوى:

الثقافة الإسلامية، ونعني بها الثقافة الشرعية العميقة، بالإضافة إلى معرفة واقع الناس وأحوالهم، وأن يكون ديِّنا متخلقًا بأخلاق الإسلام وآداب العلماء، وهو ما يطلق عليه: العدالة.

- ما هي الثقافة التي ينبغي أن يتحلى بها المفتي؟

*أولًا: الثقافة الشرعية، بأن يكون على قدر كبير من العلم بالإسلام، وخصوصًا علم الفقه وأصوله وقواعده، والإحاطة بأدلة الأحكام، والدراية بعلوم العربية، وامتلاكه لمَلكة الفقه والاستنباط.

فلا يجوز أن يفتي الناس في دينهم من ليس له صلة وثيقة، وخبرة عميقة، بمصدريه الأساسيين: الكتاب والسنة.

ولا يجوز أن يفتي الناس مَن لم تكن له قدرة على فهم لغة العرب وتذوقها، ومعرفة علومها وآدابها، حتى يقدر على فهم القرآن والحديث.

ولا يجوز أن يفتي الناس مَن لم يتمرس بأقوال الفقهاء، ليعرف منها مدارك الأحكام، وطرائق الاستنباط، ويعرف منها كذلك مواضع الإجماع ومواقع الخلاف.

ولا يجوز أن يفتي الناس مَن لم يتمرس بعلم أصول الفقه، ومعرفة القياس والعلة، ومتى يستعمل القياس، ومتى لا يجوز.

ويجب فيمن يتصدر للفتوى أن يكون عالما بمقاصد الشريعة، وعلل الأحكام، فمَن عاش مع ظواهر النصوص وحرفيَّتها، ولم يكن له التفات إلى أسرارها ومقاصدها: لم يُحسن الفتوى في دين الله.

قيل للإمام عبد الله بن المبارك: متى يفتي الرجل؟ قال: إذا كان عالما بالأثر، بصيرا بالرأي.

وبهذا لا يكفي الأثر دون الرأي، ولا الرأي دون الأثر.

وأن يكون ممن عايش الفقهاء في كتبهم وأقوالهم، واطلع على اختلافهم، وتعدد مداركهم، وتنوع مشاربهم، ولهذا قالوا: مَن لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه!

ولا بد للمفتي من ثقافة عامة، تصله بالحياة والكون، وتطلعه على سير التاريخ، وسنن الله في الاجتماع الإنساني، حتى لا يعيش في الحياة وهو بعيد عنها، جاهل بأوضاعها، وأن يكون ذا بصيرة ومعرفة بالحياة وبالناس، فلا يجوز أن يفتي الناس من يعيش في صومعة حسية أو معنوية، لا يعي واقع الناس، ولا يحس بمشكلاتهم، فالمفتي يجب أن يكون واعيا للواقع، غير غافل عنه، حتى يربط فتواه بحياة الناس، فهو لا يكتب نظريات، ولا يلقي فتواه في فراغ، ومراعاة الواقع تجعل المفتي يراعي أمورا معينة، ويضع قيودا خاصة، وينبه على اعتبارات مهمة .

ومن أمانة المفتي وتقواه، أن يحيل سائله إلى من هو أعلم منه بموضوع الفتوى ولا يجد في ذلك حرجا في صدره، سئلت عائشة أم المؤمنين عن المسح على الخفين، فقالت للسائل: سل عليًّا، فإنه أعلم مني بهذا، وقد كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك، أن يسأل هو إخوانه من أهل العلم ويشاورهم، ليزداد استيثاقا واطمئنانا إلى الأمر، كما كان يفعل عمر، حيث يجمع علماء الصحابة ويشاورهم، بل كان يطلب رأي صغار السن فيهم مثل عبدالله بن عباس، الذي قال له مرة: تكلم ولا يمنعك حداثة سنك.

ومن هذا الجانب الأخلاقي: أن يرجع عن الخطأ إذا تبين له، فالرجوع إلى الحق خير له من التمادي في الباطل، ولا إثم عليه في خطئه، لأنه مأجور عليه، وإنما يأثم إذا عرفه ثم أصر عليه عنادًا وكبرًا، أو خجلًا من الناس، والله لا يستحي من الحق.

وقد كان بعض السلف يفتي سائله، فإذا تبين له خطؤه أمر من ينادي في الناس بأن فلانا الفقيه أفتى اليوم خطأ. ولا يبالي بما يقول الناس.

ومن أخلاقيات المفتي: أن يفتي بما يعلم أنه الحق، ويصر عليه، ولو أغضب من أغضب من أهل الدنيا، وأصحاب السلطان، وحسبه أن يرضي الله تبارك وتعالى. وكل الذي فوق التراب تراب.

- ما هي اقتراحاتكم لإعداد جيل من المفتين القادرين على الإفتاء وفق منهج صحيح؟

*إعداد عدد من المفتين قادر على إفتاء الناس فيما يسألون، خاصة في النوازل، هو فرض كفاية يدل على هذا قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة:122).

فلم يوجب على الجميع النفير لطلب العلم، إنما أوجبه على طائفة في كل فرقة. سواء أكانت هذه الطائفة اثنين أو أكثر أو أقل، ما دامت تكفي لوظيفة الفقه والإنذار، كما يدل عليه الحديث الذي ذكرناه آنفًا: "حتى إذا لم يبق عالمًا، اتخذ الناس رؤوسا جهَّالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا".

استفت قلبك

- هناك مقولة شائعة: استفت قلبك. هل هذا حديث صحيح، وما المراد منه؟

*مقولة (استفت قلبك) هي جزء من حديث رواه الإمام أحمد والدارمي عن وابصة مرفوعا بإسناد فيه ضعف، ونص الحديث: "استفت قلبك واستفت نفسك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك".

وهذا الحديث وإن كان سنده يدور بين الضعف والحسن، فإنه صحيح المعنى، ومعناه أن على المستفتي أن يتقي الله ويراقبه في استفتائه إذا استفتى، ولا يجعل الفتوى ذريعة إلى أمر يعلم من قرارة نفسه أنه غير جائز شرعًا، وإنما لبَّس على المفتي، وغرَّه بزخرف القول، أو بإخفاء عنصر له تأثير في تكييف القضية المسؤول عنها، فيجيب المفتي بما يظهر له، غير متفطن إلى خبايا الموضوع وخلفياته. ولو عرضت عليه القضية بوضوح، لا تلبيس فيه ولا تمويه، وظهر له من خباياها ما أخفى السائل عنه، لغيَّر فتواه.

فلا يخدعن المستفتي نفسه، ويحلل لها ما يوقن- بينه وبين نفسه- أنه حرام، لمجرد أنه حصل في يديه فتوى من هذا الشيخ أو ذاك، هي- في واقع الأمر- في غير موضوعه، أو في غير حالته.

وكل فتوى تحوك في صدر المستفتي، ولا تطمئن إليها نفسه، ولا يستريح إليها ضميره، لسبب من الأسباب المعتبرة، يجب أن يتوقف عن العمل بها، حتى تتضح له الرؤية، ويصل إلى مرحلة الاطمئنان النفسي، بأن يسأل أكثر من مفتٍ، أو يعاود المفتي الأول مرة بعد أخرى، حتى يزول التردد بالتثبُّت، وينقطع الشك باليقين، ما وجد إلى ذلك سبيل. فالقلب- أو الضمير بتعبير عصرنا- هو المفتي الأول في هذه الأحوال، كما في الحديث.

يقول العلامة ابن القيم: (لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي، إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله، وتردَّد فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك").

فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولا، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي بذلك.

الغفلة عن النصوص

- ما أسباب انحراف الفتوى عن الجادة؟ أو ما هي مزالق المتصدين للفتوى؟

*أول هذه المزالق: الغفلة عن النصوص الشرعية أو الجهل بها، وعدم الإحاطة بها وتقديرها حق قدرها، وخصوصا إذا كان من يتعرض للفتوى من الجرآء المتعجِّلين، كالذين يريدون أن يملؤوا أنهار الصحف أو المجلات بأي شيء، دون أن يجشم نفسه عناء الرجوع إلى المصادر، والبحث عن الأدلة في مظانها، ومراجعة الثقات من أهل العلم، كمن كتب بجواز لبس (الباروكة) للمرأة، وأنها تغني عن تغطية الرأس، ولو قرأ من قال بهذا صحيح البخاري وحده، لوجد فيه من الأحاديث الصريحة الناهضة ما يقطع بحرمة هذا الصنيع.

ومنها: سوء التأويل، فقد لا يأتي الخطأ من عدم استحضار النص، ولكن من سوء تأويله، وفهمه على غير وجهه، اتباعا لشهوة، أو إرضاء لنزوة، أو حبا لدنيا، أو تقليدا أعمى للآخرين.

ومن أشد المزالق خطرًا على المفتي أن يتَّبع الهوى في فتواه، سواء هوى نفسه أو هوى غيره، وبخاصة أهواء الرؤساء وأصحاب السلطة، الذين تُرجَى عطاياهم، وتُخْشَى رزاياهم، ورأينا من هؤلاء من أصدروا فتوى مطولة مفصلة، معللة مدللة، بتحريم الصلح مع العدو الغاصب لأرض المسلمين، دامغين بالفسق بل بالكفر، وخيانة الله ورسوله والمؤمنين، من يستحل ذلك من الزعماء والحكام، ولم تمض سنوات قلائل، حتى أصدر هؤلاء أنفسهم فتوى أخرى مناقضة للأولى، تجوِّز ما منعوه، وتحلِّل ما قد حرموه من الصلح، ولم يتغير شيء في الموقف إلا تغير رياح السياسة، وأهواء الحاكمين.

ومما يدخل في اتباع الهوى: الترجيح بين الأقوال المختلفة، والآراء المتباينة، بغير مرجِّح من دليل نقلي، أو نظر عقلي، أو اعتبار مصلحي، إلا مجرد الميل النفسي إلى ذلك القول، ولعله أضعف الأقوال حجة، وأسقطها اعتبارًا، أو لعله من زلات العلماء، وزيغات الحكماء، التي جاء التحذير منها في غير ما حديث.

ضغط الواقع

ومن المزالق التي تزل فيها أقدام المفتين في عصرنا: الخضوع لضغط الواقع الماثل بما فيه من انحراف عن الإسلام، وتحد لأحكامه وتعاليمه، ولهذا رأينا بعض المشتغلين بالفقه والفتوى أيام سطوة الرأسمالية يجهدون أنفسهم في تبرير البنوك الربوية الرأسمالية، وبذل المحاولات المستميتة لتحليل الفوائد، رغبة في إعطاء سند شرعي لبقاء هذه البنوك واستمرارها مع رضا الضمير الإسلامي عنها. وهيهات.

وفي أيام سطوة الاشتراكية، وجدنا كتبا ورسائل وبحوثا ومقالات وفتاوى تصدر من مشايخ وأشباه مشايخ، لتبرير التأميمات والمصادرات بحق وبغير حق، ولا أتحدث هنا عن المأجورين ممن يبيعون دينهم بدنياهم أو بدنيا غيرهم، ويشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا، وإنما أتحدث عن المخلصين الذين لا يزال دينهم أعز عليهم من كل شيء، ولكن الواقع يضغط عليهم بقوة، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فهم يركبون الصعب والذلول لتطويع النصوص للواقع، على حين يجب أن يطوَّع الواقع للنصوص؛ لأن النصوص هي الميزان المعصوم الذي يحتكم إليه ويعوَّل عليه، والواقع يتغير من حسن إلى سيئ، ومن سيئ إلى أسوأ أو بالعكس، فلا ثبات له ولا عصمة.

ومن مزالق الفتوى: الجمود على ما سطر في كتب الفقه، أو كتب الفتاوى منذ عدة قرون، والإفتاء بها لكل سائل دون مراعاة لظروف الزمان والمكان والعرف والحال، مع أن هذه كلها تتغير وتتطور، ولا تبقى جامدة ثابتة أبد الدهر، من ذلك ما يذكره بعض أهل الفتوى مما نصت عليه كتب الفقه: أن حليق اللحية لا تقبل شهادته. ومهما يكن رأينا في حلق اللحية وتأثيم فاعلها- وهو أمر اختلف فيه القدماء والمعاصرون- فنحن لا نستطيع رد شهادة الحليق، لعموم البلوى به، وعموم البلوى من أسباب التخفيف والرخص كما هو معلوم. ولو أخذنا بالرأي المدون في الكتب لأوشكنا أن نعطل المحاكم في أداء وظيفتها في الفصل في الخصومات والقضاء بين الناس وإقامة العدل.

تغير الفتوى

- سمعنا أن بعض العلماء له رأيان في المسألة الواحدة، وأن الشافعي له مذهبان قديم وجديد، وأنه غير اجتهاده عندما انتقل من العراق إلى مصر، فما هي موجبات تغير الفتوى في الإسلام؟

*تغير الفتوى آية مرونة، وآية سعة، تدل على أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، فلو شاء الله لجعل أحكام الشريعة كلها منصوصًا عليها نصًّا قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وبذلك لا يكون هناك مجال لاجتهاد أو استنباط، أو لاختلاف المشارب وتعدد المدارس، وتطور الآراء، وتغير الفتوى بتغيير الزمان والمكان والحال، وإنما هو حكم واحد ثابت مؤيد، لكن الله من رحمته وحكمته أن جعل أغلب نصوص الشريعة ظنية الدلالة، ومن هنا لم يجد المحققون من فقهاء المسلمين، في مختلف العصور أي غضاضة أو حرج في إعلان وجوب تغير الفتوى، بتغير الأزمنة والأمكنة والأعراف والأحوال، بل ومارسوه عمليا، فكما ذكرت، نجد الفقيه الواحد له في المسألة الواحدة أكثر من رأي، بل وجدنا للإمام الشافعي مذهبين قديمًا وجديدًا. يقول الإمام ابن القيم في فصل تغير والفتوى واختلافها: (هذا فصل عظيم النفع جدا، وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه : ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها التأويل).

- كثيرا ما نسمع عبارة (تطوير الفقه) فهل يعني هذا تغييرا في الأحكام؟

*كلمة (تجديد الفقه) أو تطويره لا تعني دائمًا تغييرًا في الأحكام، وإنما قد تعني أن نكتب الفقه بلغة العصر، أن نفك رموز الكتب القديمة ومصطلحاتها، لنكتبها بأسلوب يناسب أهل عصرنا وبمصطلحات ومفردات عصرنا، وأن نيسر الفقه لتطبيقه والعمل به بأن نرجع إلى منهج الأئمة المتقدمين والصحابة ومن بعدهم من فقهاء القرون المباركة الأولى، فقه التيسير، فهذا الدين قائم على اليسر ورفع الحرج عن المكلفين، كما دلت على ذلك النصوص المتوافرة من القرآن والسنة، والرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بالتيسير لا التعسير، فقال: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا". وقال: "إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين". وكان من أوصافه عليه السلام: أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا. وعصرنا هذا خاصة أحوج ما يكون إلى فقه التيسير، لغلبة المادية على العقول، وغلبة الشهوات على الأنفس، وازدحام الحياة المعاصرة بأمور كثيرة: شغلت الناس عن دينهم، وعن حق ربهم عليهم، فكان علينا- أهل العلم والدعوة- أن نمسك الناس على الدين، ولو بخيط دقيق، حتى لا يتفلتوا منه سراعًا، وأن نحبب الله جل وعلا إليهم بتخفيف تكاليفه عليهم، ما وجدنا إلى ذلك سبيلا.

- هل كل أمور الشريعة قابلة للاجتهاد؟ أم أن هناك مناطق يجوز الاجتهاد فيها ومناطق أخرى ينبغي التوقف عندها وعدم الخوض فيها؟

*الإسلام فيه منطقتان: منطقة مغلقة لا يجوز لأحد مهما علا كعبه في العلم، ودرجته في التقوى، أن يجتهد فيه أو يطور أو يجدد، هي منطقة لا يدخلها الاجتهاد ولا التغير بحال, وهى منطقة (القطعيات) التي قال فيها الإسلام كلمته البينة الحاسمة سواء في مجال العقائد أو العبادات أم الأخلاق أو التشريع، وهى تمثل (الثوابت) التي تجسد الوحدة العقدية والفكرية والشعورية والسلوكية للأمة المسلمة، وعليها الاجتماع اليقيني القطعي.

وهناك منطقة أخرى مفتوحة لأهل الاجتهاد الذين امتلكوا آلته، يتغير فيها الحكم، وتتغير فيها الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف، وهي منطقة الظنيات، الأمور التي ليس فيها نص، أو الأمور التي يحتمل فيها النص أكثر من وجه وأكثر من دلالة وهذا هو أكثر الشريعة.

فتاوى شاذة

- ابتلينا في هذه الأزمان بالكثير من الفتاوى التي يراها كثير من المسلمين شاذة، فكيف نحكم على الفتوى بالشذوذ؟ ولماذا يقع المفتي في الشذوذ؟

*الفتوى الشاذة هي التي شذَّت عن المنهج الصحيح في استباط الأحكام، ولهذا فهي محكوم عليها بالخطأ في نظر من يعتبرها شاذة، وهي في تراثنا الفقهي قليلة، بل نادرة. وفي عصرنا كثيرة ومنتشرة، وذلك لأسباب كثيرة، منها: أن تصدر الفتوى من غير أهلها، أو لا تراعي تغير الزمان والمكان والحال، وعدم فقه الواقع، وقد يكون نتيجة القصور في البحث، أو عدم فهم الأدلة، أو اتباع الهوى، وربما كانت نتيجة لقياس خاطئ، كمن قال لا ربا بين الدولة والمواطن، قياسا على ما قاله بعض الفقهاء: لا ربا بين الوالد وولده. وكلاهما لا أساس له.

ونحكم على الفتوى بالشذوذ إذا صدرت في غير محلها، بأن كان موضوعها من المسائل المقطوع بحكمها في الشريعة، المعلومة للعلماء الثابتة بالأدلة القطعية، ثم يأتي من يجتهد فيها من جديد، ليستخرج لها حكمًا يخالف ما استقر عليه الفقه، واستمر عليه العمل، وثبت بالإجماع اليقيني. ونحكم بالشذوذ إذا كانت الفتوى مخالفة لنص قرآني؛ كمن يفتي بتحريم تعدد الزوجات، أو المساواة بين البنت والابن في الميراث. أو كانت مخالفة لحديث نبوي صحيح؛ كفتوى إباحة التماثيل إباحة مطلقة. أو مخالفتها للإجماع المتيقن؛ كفتوى الشيخ الألباني بتحريم الذهب المحلَّق على النساء.

لا أحد كبير على الخطأ

- هل يمكن أن نقول: إن الإمام يوسف القرضاوي قد وقع فيما حذر منه يوما وأفتى بفتاوى شاذة؟

*لا أحد كبيرٌ على الخطأ، وكل يؤخذ منه ويترك، والكمال لله وحده، نعم هناك فتوى قد شاركت فيها مع بعض الإخوة، قد تدخل في باب الشذوذ، إذ إنها لم تُصوِّر الواقع تصوُّرًا صحيحًا كما يراه الكثيرون.

هذه الفتوى لم يوجَّه إليَّ سؤالها أساسًا، إنما وجهه أخونا العالم الأصولي المعروف الدكتور طه جابر العلواني، من أمريكا التي يعيش فيها، ويرأس (المعهد العالمي للفكر الإسلامي)، في واشنطن، وجامعة العلوم الاجتماعية الإسلامية، ومجلس الفقه الإسلامي، وقد وجه هذا الاستفتاء عندما وقع حادث 11 سمبتمر 2001 الشهير، الذي ضُرِب فيها برجان بنيويورك، ووزارة الدفاع في واشنطن وغيرها، وكان وقع الحدث هائلًا، على الناس في العالم كله، وبالأخص على المسلمين في داخل أمريكا.

كان ينبغي على العلواني في مجلسه الفقهي أن يجيب هو عن السؤال، فأهل مكة أدرى بشعابها، ولكنه أراد أن يبرأ من التبعة ويتحملها غيره، فوَّجه السؤال إلى صديقينا وصديقه: د.محمد سليم العوا. وطلب منه أن يستشير إخوانه الذين من حوله حول وضع الجنود المسلمين أمريكيين الذين يعملون في الجيش الأمريكي: هل يستقيلون من عملهم أم يبقون فيه؟ وبخاصة أنهم يتوقعون أن يُكَلَّفوا بالاشتراك في حروب قد تشنها أمريكا على بعض بلاد المسلمين، فحينئذ قد يتورطون في قتل مسلم لا ذنب له. والذي يخشى من وراء الاستقالة: أنها إذا قُدِّمت بصورة جماعية أو شبه جماعية، كأن يتقدم عدة آلاف مرة واحدة، قد يُظَن أن المسلمين لا يُكِنُّون أي ولاء لأوطانهم التي ينتمون إليه، وهذا التصور إذا شاع يضر بالمسلمين، ويجعلهم طائفة شبه معزولة أو معادية لوطنها في نظر الأكثرية المخالفة. استشار الدكتور العوا إخوانه من أهل العلم والرأي في الموضوع: المستشار طارق البشري، الأستاذ فهمي هويدي، والدكتور هيثم الخياط، وكتبوا ردًّا على الفتوى يتضمن جواز بقاء الجنود المسلمين في مواقعهم في الجيش الأمريكي، وعدم استقالتهم منه، لما يترتب على الاستقالة الجماعية من مخاطر وآثار لا تحمد عقباها. وإذا كُلِّفوا بالمشاركة في حرب لشعب مسلم، فعليهم ألا يعتذروا حتى لا يتهموا في وطنيتهم، كما عليهم أن يجتهدوا ألا يبدؤوا بقتل مسلم، إلا إذا اضطروا إلى ذلك، بحكم أنهم حينئذ في جيش له قيادته وواجباته. إلى آخر ما ذكر في هذه الفتوى، التي أرسلها الدكتور العوا إليَّ في دولة قطر، لأرى رأيي فيها، وأوقِّع عليها، وقد وافقت عليها في الجملة، بعد أن عدلت فيها بعض العبارات، وهذَّبت فيها بعض الجمل، مع الإبقاء على جوهرها. وقد لامني بعض الإخوة لومًا شديدًا على موافقتي على هذه الفتوى، قائلين: كيف توافق على أن يقاتل المسلم أخاه المسلم، ويضربه بالقنابل والصواريخ، وغير ذلك من الأسلحة المتطورة التي تملكها أمريكا؟ ولستَ في حاجة أن نذكرك بالأحاديث الصحيحة الصريحة المتفق عليها، التي تجعل هذا القتال كفرا، ومن أعمال الجاهلية، والجيش الأمريكي يعطي لكل جندي الحق أن يعتذر عن الاشتراك في حرب ما إذا كان ضميره غير مطمئن إلى هذه الحرب من الناحية الدينية والأخلاقية أو غيرها، فلم يعد الجندي المسلم مجبورًا على الاشتراك في الحرب، وقد سمعنا منك مرارًا: أن الدين والوطن إذا تعارضَا، قُدِّم الدين، فالولاء في الدين للدين مقدم على كل ولاء. والقرآن الكريم صريح في ذلك كل الصراحة، وهو يقول: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (المجادلة:22).

وأرى أن موافقتي على هذه الفتوى التي أقرها عدد من الإخوة الفضلاء المشغولين بالشأن الإسلامي والشأن العالمي، مردها إلى عدم معرفتي معرفة كاملة وواضحة بالواقع الأمريكي، وأن من حق الجندي في الجيش أن يعتذر عن عدم مشاركته في الحرب ولا حرج عليه. وأنا أعتذر عن الموافقة على المشاركة في هذه الفتوى، وأسأل الله أن يغفر لي.

فقيه الثورة وفقيه الدولة

- ظهرت في الآونة الأخيرة مع التحولات التي حدثت في الكثير من الدول مصطلحات مثل فقيه الثورة وفقيه الدولة، ما تعليقكم على ظهور هذه المصطلحات؟

*هذه الاصطلاحات وإن نشأت بعد ثورات الربيع العربي، إلا أن معناها موجود عبر تاريخ الأمة، بل موجود مع وجود الحق والباطل، هناك علماء يدورون مع الحق حيث دار، وهؤلاء هم من قال الله فيهم: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (الأحزاب:39). وهناك آخرون {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة:79).

والخطر كل الخطر في ضعاف النفوس، ومرضى القلوب، من علماء الدين، الذين يزينون للناس سوء أعمالهم فيرون حسنا، رضوا أن يجعلوا العلم خادما للسياسة، وأن يبيعوا الدين بالطين، وأن يكون العلماء أبواقا للسلاطين، وإخوانا للشياطين، وهؤلاء لا يستحون أن يغيروا جلودهم في كل حين كالثعابين، وأن يلبسوا لكل حالة لبوسها غير متورعين ولا خجلين، فهم مستعدون لأن يحللوا ما حرموه من قبل، وأن يحرموا ما حللوه، لا تبعا للدليل والبرهان، ولكن تبعا لتغيير السلطان، فلكل مقام مقال، ولكل زمان دولة ورجال، ومقالهم جاهز لكل مقام، وهم دائما رجال كل دولة وكل زمان!

هذا الصنف الخبيث يحاط عادة بهالة من الدعاية تستر جهله، وتغطي انحرافه، وتنفخ فيه ليكون شيئًا مذكورًا، وتحدث حوله ضجيجًا يُلفت إليه الأسماع، ويلوي إليه الأعناق، وإن كان هذا لا يجعل من جهله علمًا، ولا من فجوره تقوى، ولكن:

كمثل الطبل يسمع من بعيد وباطنه من الخيرات خال

إنها تسير في ركب السلطان حيثـمـا حـل أو ارتحل، وتقف مدافعة عنه، تسبح بحمده، وتمجد أفعاله، وتبرر خطاياه، وتلتمس الأعذار لفظائعه، وتتمحل الأدلة الشرعية لجرائمه، وهم ينظرون إلى الشعوب كالرعاع، الذين لا حقوق لهم، ولا قيمة لآرائهم، وما عليهم إلا أن يسيروا كالقطيع، حيث أراد الراعي، ولو إلى الذبح.

لقد رأينا من هؤلاء من أصدروا فتوى مطولة مفصلة، معللة مدللة، بتحريم الصلح مع العدو الغاصب لأرض المسلمين، دامغين بالفسق بل بالكفر، وخيانة الله ورسوله والمؤمنين من يستحل ذلك من الزعماء والحكام، ولم تمض سنوات قلائل حتى أصدر هؤلاء أنفسهم فتوى أخرى مناقضة للأولى، تجوز ما منعوه، وتحلل ما قد حرموه من الصلح، ولم يتغير شيء في الموقف إلا تغير رياح السياسة، وأهواء الحاكمين.

وقام في كل عصر حراس أيقاظ، يحملون علم النبوة، وميراث الرسالة، يورثونه للأجيال، مشاعل تضيء، ومعالم تهدي، من العلماء الراسخين الربانيين، الذين يقولون الحق، ولا يخشون في الله لومة لائم، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصديقًا لتلك النبوءة المحمدية، والبشارة المصطفوية: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين".

الإنترنت والفتوى

- هل بإمكان الدعوة أن تستفيد من الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي؟ وكيف؟

*إن استخدام وسائل الاتِّصال العصرية والمستحدثات التكنولوجية والإعلامية- وعلى رأسها تقنية الإنترنت- يعدُّ من أهم سُبل نشر الدعوة الإسلامية والدفاع عنها في هذا العصر، وذلك للإمكانيات الهائلة التي تتوفَّر لهذه الوسائل في الاتصال والتأثير، فعن طريقها يستطيع الدعاةُ الذودَ عن الإسلام ضد الاتجاهات المنحرفة، والحملات المغرضِة التي تتَّسم بالقوة والفاعلية أحيانًا، والتنظيم والتأثير أحيانًا أخرى.

وكنت- بفضل الله- من أول الداعين إلى الاستفادة من الإنترنت- ووصفت الاستفادة من هذه الوسائل بأنها: جهاد العصر، وأسَّست أول وأقوى شبكة إسلامية دعوية، وهي (إسلام أون لاين)، كتب لها الانتشار والنفع إلى حد كبير على مستوى العالم، حتى تدخل فيها من ليس من أهلها، وأقحموا أنفسهم فيها، فعزلتُ نفسي عنها، وتركتها لهم، حتى انتهى أمرها إلى التعطيل، أو شبه التعطيل.

والمسلمون حتى الآن لم ينجحوا في استغلال شبكة الإنترنت دعويًّا الاستغلالَ المطلوب، مع أهمية هذه الشبكة العنكبوتية التي تخترق الحدود والسدود، فالإحصائيات تقول: إن عدد المواقع الإسلامية على شبكة الإنترنت التي تخدم الدين الإسلامي ودعوته مباشرة ما زالت محدودة، وإن المواقع التنصيرية في الشبكة تزيد عن المواقع الإسلامية بمعدل 1200%، وإن نصيب المسلمين من الإنترنت حتى الآن ما زال هزيلًا، ولا يرقى إلى المستوى المطلوب، وقد أشارت دراسة حديثة إلى أن المنظمات المسيحية هى صاحبة اليد الطولى فى الإنترنت؛ إذ تحتل نسبة 62% من المواقع، وبعدها فى الترتيب جاءت المنظماتُ اليهودية، في حين تساوى المسلمون مع الهندوس، فلم تزد حصةُ كل منهم على 9% فقط.

والدلائل تؤكد أن المذاهب الهدَّامة والأديان الباطلة، حتى البوذيون والوثنيون وعبدة الشيطان، لهم مئات المواقع بلغات العالم الحية والميتة، وعدد المواقع التي تُهاجم الإسلام سواء بطريق مباشر أو غير مباشر تتعدى عشرة آلاف موقع، والميزانية المرصودة لمهاجمة الإسلام إعلاميًّا في جميع أنحاء العالم، يقولون: إنها تتعدى مليار دولار سنويًّا. وأحسبها تزيد كثيرًا، أما الجهود المسلمة المبذولة للدفاع عن الإسلام إعلاميًّا فهي جهود قليلة وفردية، لا تتعدى ميزانيتها عشرات أو مئات الملايين. وأنا أقول بصراحة- بصفتي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين-: عندي نقص في ميزانية الاتحاد للعام الماضي، ما زلت أشكو عجزا عن سدها، فيا لله للمسلمين!

أما عن الوسائل الممكنة عبر الإنترنت لنشر الدعوة الإسلامية فيمكن تحديدُها في الآتي:

- إنشاء مواقع إسلامية تقدم الإسلام الوسطي الصحيح بصورة سهلة وجذابة ومشوقة.

- نشر الصحف الإسلامية على الشبكة.

- توفير الكتب الإسلامية المختلفة من خلال المواقع الإسلامية والعربية، وخاصة تفاسير القرآن وترجمات معانيه باللغات المختلفة، وكتب الأحاديث، والكتب الفقهية المبسطة.

- استغلال غرف المحادثة والحوار عبر العديد من المواقع ومحركات البحث في عرض دعوة الإسلام على الآخرين، وهذه وسيلة مثمرة نافعة، وقد جرَّبها بعضُ الدعاة وأسلم على أيديهم الكثيرون من جنسيات مختلفة.

- استخدام البريد الإلكتروني للدعوة إلى الله، وهو وسيلة جيدة للدعوة ومكملة للوسائل الأخرى، فباستخدام البريد الإلكتروني يمكن توجيهُ دعوة الإسلام إلى ملايين من العناوين الإلكترونيَّة، ويمكن اختيارُ شريحة ذات مواصفات معينة لكي تصلها الدعوات. ويتم ذلك إما بالمراسلة الفردية، أو بالاتفاق مع شركات الإنترنت التي تقدم الخدمات البريدية مقابل أجر معيَّن، فهذه الشركات لها قوائم بريدية تتجاوز أحيانًا خمسين مليونًا من العناوين البريدية، وبالاتفاق مع هذه الشركات يمكن توصيل دعوة الإسلام إلى خمسين مليون مشترك بالإنترنت، وهذه وسيلة جيدة إذا أُحْسِنَ استخدامها، وقام بها علماء ذوو غيرة على الإسلام ودعوته.

سلاح ذو حدين

- هل يمكن أن تشكل الوسائل الحديثة مخاطر على الدعوة الإسلامية وأصول الإسلام الصحيح بأن تُستغل لصالح الفرق المناوئة لأهل السنة؟

* الوسائل الحديثة سلاح ذو حدين، تمثل خطرا كبيرا إذا لم نحسن استغلالها والتعامل معها، وتمثل نفعًا كبيرًا للدين والأمة إذا تعاملنا معها التعامل الأحسن، وهي سوق مفتوحة، يعرض كل واحد ما عنده، فلو كانت عندنا الهيئات التي تحسن استغلالها وتخطط لذلك سيكون فيها الخير الكثير.

الجزء (1) | (2)