الشيخ القرضاوي في لقاء "الشرق" الشهري الأول

تناحر لا رحمة

- هناك من يقول: إن اختلاف الأئمة رحمة بالأمة، لكن في عصرنا الحاضر صار التناحر السياسي يسبق الخلافات الفقهية، فكيف ترى خطر تأثر المفتي بالسياسة؟

*الأصل أن تنبثق آراء العالم أو المفتي أو الفقيه من مصدر واحد، هو مصدر المعرفة الإسلامية، المتمثل في القرآن الكريم، والسنة النبوية، وهو مصدر يجمِّع ولا يفرق، ويبيِّن ولا يلبِّس، وألا يخضع لسياسة أي دولة، ولا تحركه إلا أحكام شريعة الإسلام، وتوجيهاتها الصريحة، التي تبين الرشد من الغي.

وتدخل العالم أو المفتي في أمور السياسة والحكم ينبغي أن يكون له ضوابطه وأطره، وينبغي أن يكون عن إحاطة وعلم، وأن يرجع فيه إلى شرع الله، لا إلى هوى الأنفس، وأن يرد إلى أقوال الأئمة، لا إلى ما يمليه عليه هواه أو هوى حزبه أو حاكمه، ولا أن يناديه فصيل فيهرع إليه، ويبث له باطلا، فيتلقفه ويجعله من المسلمات، دون رجوع إلى مصادر، ولا مشاورة مع أهل الاختصاص.

إن لم يكن للفقيه علم بالواقـع وبالمكـايـد السياسـيـة، والدسائس الحزبـيـة، وما يفعله كل فريق ليشيطن الفريق الآخر، وما هي ردود الأفعال في الشارع، وموازين القوى في المجتمع، وما يؤول إليه الأمر بـعـد اتخاذ قـرارات متسرعة، لا تستند إلى حق، ولا تقوم على شرع، ولا تمثل الضمير الجمعي للأمة.. إن لم يكن لك نصيب من إدراك هذه المناكفات السياسية التي تموج موجًا، وتلك المؤامرات الحزبية، فحري به أن يتبين حتى لا يقف موقفا يدافع فيه عن باطل، أو ينصر ظالمًا، أو يقف موقفا ضد الأمة وتطلعاتها.

دور سياسي للأزهر

- فضيلتكم تتفقون معنا على عظم الدور الكبير الذي كان يقوم به الأزهر كمرجعية للأمة، وبخاصة أهل السنة، لكن هناك من ينظر إلى أن دور الأزهر قد تقلص، وأصبحت فتاواه داخل مصر وحدها.. فما رأي فضيلتكم في ذلك؟

* الدور الذي اضطلع به الأزهر عبر تاريخه، دور كبير لا ينكره أحد، وهذا الدور ليس علميًّا ثقافيًّا فقط، وإنما كان دورًا سياسيًّا، حيث كان للأزهر دور كبير في قيادة ثورة لإخراج المستعمر سواء الفرنسي أو البريطاني من مصر، وكان لشيوخه مكانتهم في العالم كله، لكن للأسف تراجع الأزهر عن هذا الدور، وهناك أسباب عدة أدت إلى هذا التراجع منها: أن الأمة كلها تراجعت فتراجع معها الأزهر؛ لأن الأزهر جزء من المجتمع الذي يعيش فيه. كما أن السياسة لعبت بالأزهر، فحرمت الأزهر من أوقافه، وقد كان الإمام محمد عبده في زمانه يشكو أن الأزهر له أوقاف كثيرة ولا يحصل الأزهر منها إلا على الأقل من القليل، وفي الفترة الناصرية أخذت الأوقاف كلها من الأزهر، وأعطيت إدارتها لوزير الأوقاف، فأصبح الأزهر غير مستقل إداريا وماليا عن الدولة، وأصبح شيخ الأزهر موظفًا عند الحكومة، وكذا رئيس جامعة الأزهر، والعلماء والوعاظ أصبحوا موظفين، تستطيع الدولة أنها تعزل من شاءت متى شاءت. أضرب لك مثلًا تاريخيًّا، الإمام الحسن البصري وهو من أئمة التابعين الكبار، وكان في عهد بني أمية، وكان شديد النقد لولاة بني أمية، ولا يخشى في قولة الحق لومة لائم، فبعض الولاة قال للناس: ما سر جراءة هذا الرجل؟ ما سر قوته؟ فقال الناس لهذا الوالي: احتاج الناس إلى دينه، واستغنى عن دنياهم! فكيف إذا صار العالم محتاجًا إلى دنيا الناس، والناس مستغنين عن دينه؟! ومنذ ثورة يوليو وأهل الحكم يتحكمون في مسار الأزهر، لا يعيِّنون إلا من يواليهم، في السابق كانت هيئة كبار العلماء هي التي تنتخب شيخ الأزهر، أما الآن فمن يمشِي في الركاب ويتمسح بالأعتاب هو الذي يعين في كبار مناصب الأزهر. تحدثت مرة منذ زمن بعيد مع مسؤول مصري مقرب من نظام الحكم وقتها قلت له: لماذا لا تسَاعَد الدولة الأزهر في أن يستعيد دوره؟ المبشرون الأمريكان البروتستانت اجتمعوا ليقرروا تنصير المسلمين في العالم، وأنشؤوا معهدًا سمُّوه (معهد زويمر)، ورصدوا لذلك ألف مليون دولار، فلماذا لا يكون للأزهر استقلاله المادي والإداري والدعوي؟ ولماذا لا يضطلع بدوره في نشر الإسلام في أقطار الأرض؟ قال لي: أنا أقول لك بصراحة: نحن نريد للأزهر أن يقوى، ولكن بشرط ألا يكون مؤسسة في مواجهة الدولة، وهذا أمر غير مضمون. قلت: يا أخي هذه نظرة خاطئة، لماذا تعتبرون الأزهر خصما للدولة؟ ولماذا لا تعتبرونه قوة للدولة؟ أنتم حينما تقوون الأزهر تقوون مصر، تقوون ما يسمى القوة الناعمة لمصر في العالم الإسلامي كله، اجعلوا من مسؤوليته نشر الإسلام في العالم وأعفوه من السياسة الداخلية.

شيوخ الأزهر الكبار الآن يقفون موقف المصفِّق للباطل، الموافِق للحاكم، المناوئ لخصومه؟! حتى رأينا شيخ الأزهر يبارك الانقلاب على الشرعية، ويقف في صف الخائنين المنقلبين، في السابق حينما قامت ثورة عرابي أيَّد علماء الأزهر أحمد عرابي، وأفتوا بأن الخديوي توفيق خائن لدينه ووطنه، وقد مرق من الدين كما يمرق السهم من الرمِيَّة.

كان الأزهر عالميًّا فقد رأيت وأنا طالب في تخصص التدريس الشيخ محمد الخضر حسين التونسي شيخا للأزهر، وكان وكيل الأزهر الشيخ محمد نور الحسن السوداني وكان عميد كلية الشريعة الشيخ عيسى منون الشامي، كان للأزهر مكانته وكلمته حتى على أهل الحكم.

- هل من الممكن الوصول إلى مرجعية موحدة تفصل في قضايا الأمة الإسلامية على رغم من الاختلاف؟

*نعم، إذا أتيحت للهيئات العلمية الإسلامية العالمية، كمنظمة المؤتمر الإسلامي، والمجامع الفقهية العالمية؛ الاستقلال التام: المادي، والإداري. وإلى أن يحدث هذا، فهذا واجب الأمة، وهيئاتها، ومنظمات المجتمع المدني فيها، وقد كان إنشاء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين محاولة لإنشاء قيادة إسلامية علمائية، تكتسب بمرور الزمن، وبحسن السمعة، وبالمصداقية، وبالثبات على الحق وعلى أمر الله؛ ثقة المسلمين في جميع أنحاء العالم، وتصبح قيادة مسموعة الكلمة، لذا دعونا العلماء من كل التيارات، دعونا السلفيين والصوفيين، دعونا التقدميين والرجعيين، ولم نقتصر على فئة؛ لأننا أردنا أن يمثل الاتحاد العلماء في كل الأمة.

فتاوى البنوك الاسلامية

- شكلت العديد من المؤسسات الاقتصادية والبنوك هيئات شرعية منفصلة خاصة بكل منها، تفتي في العديد من القضايا الاقتصادية المتعلقة بالأرباح والفوائد وغيرها.. فلماذا لا يتكون مجلس فتوى واحد يقدم آراءً فقهية موحدة حول الجوانب الاقتصادية؟ وما موقفكم من البنوك الإسلامية وتطويرها ووسائلها، وما يجري فيها؟

*من المعروف عني وعن تاريخي: أني أيَّدت البنوك الإسلامية منذ كانت فكرة في رؤوس بعض الاقتصاديين الإسلاميين، وحُلْما في نفوس بعض الرجال الإسلاميين، وكانت هناك دراسات قليلة تنشر هنا وهناك عن إمكان قيام بنوك بلا فوائد، ثم عن ضرورة إنشاء هذه البنوك، على المستوى النظري. ثم هيأ الله رجالا من أهل الفكر والنظر التقوا رجالا من أهل المال والعمل، وكان من ثمرات هذا اللقاء: تأسيس أول بنك تجاري إسلامي، وهو بنك دبي الإسلامي الذي تحمس له الرجل العملي المسلم الحاج سعيد لوتاه حفظه الله.

وقد دعاني إلى التعاون معه في أول الأمر، واعتبرني كأني مستشار للبنك تطوعا. ثم عقد البنك مؤتمره الأول الذي كان بحق أول مؤتمر للبنوك الإسلامية، دعا فيه عددا من العلماء المشغولين بفقه المعاملات وبالاقتصاد الإسلامي، وذلك في شهر مارس سنة 1975.

ثم نشأ بعد ذلك بنك فيصل الإسلامي المصري، وبنك فيصل الإسلامي السوداني، وبنك التمويل الكويتي، والبنك الإسلامي الأردني، وبنك البحرين الإسلامي، وتلاحقت بعد ذلك البنوك الإسلامية، مثل مصرف قطر الإسلامي، والمصرف الإسلامي الدولي في مصر، وغيرها.

وكان الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية – برئاسة الأمير محمد الفيصل، وأمانة د. أحمد عبد العزيز النجار يقوم بدور علمي ونظري في تسديد مسيرة البنوك الإسلامية، وأصدر موسوعة البنوك الإسلامية. وهي تضم أبحاثا ومؤشرات حول المصارف الإسلامية، وإن كان بعضها لم ينضج بعد.

وحاول د. النجار أن ينشئ معهدا لتخريج مصرفيين إسلاميين، أو تدريب العاملين في المصارف منهم. وتهيئة دراسات منهجية: شرعية واقتصادية ومحاسبية وإدارية وغيرها. وكان مقر هذا المعهد في قبرص. وقد استمر فترة من الزمن ثم توقف، لأن تكلفته كثيرة، بسبب موقعه.

ولقد حاولنا نحن القائمين على الجانب الشرعي والفقهي والدعوي، كما حاول الاتحاد أن يشد أزر البنوك الإسلامية، فأنشأ هيئة عليا للفتوى والرقابة الشرعية للبنوك، اختير الشيخ محمد خاطر مفتي مصر الأسبق ورئيس هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي المصري: رئيسا لها، واختاروني نائبا له. واجتمعنا في إسلام آباد في ضيافة ا لرئيس ضياء الحق رحمه الله. كما اجتمعنا في القاهرة واستانبول، وغيرهما، وقد استمرت هذه الهيئة عدة سنوات ثم توقفت، لعدم تجاوب البنوك الإسلامية معها لأسباب عدة.

ولا زلنا نرى أن تقوم هيئة عليا جديدة لبنوك الإسلامية، تستفيد من مجامع الفقه، ومن ندوات البركة، ومن فتاوى البنوك الإسلامية، وتخط لها خطا ظاهرا يسدد المسيرة.

ثم أنشئ مجلس للمعايير مهمته ترشيد المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية، ثم تطور إلى الهيئة العامة للمحاسبة للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، ويتبعها مجلس للمعايير. وقد اخترت في مجلس أمنائها لعدة سنوات، وكان مقرها البحرين، كما كان رئيسها الأخ الصديق، الشيخ إبراهيم آل خليفة حفظه الله. ونائبه صديقنا الاقتصادي الكبير الأستاذ الدكتور عبد العزيز حجازي رئيس وزراء مصر الأسبق، ونائب رئيس مجلس إدارة بنك فيصل الإسلامي المصري لعدة سنين.

ثم أنشئ في هذه الهيئة مجلس شرعي يضم عددا لا بأس به من علماء الشريعة المهتمين بفقه المصارف الإسلامية. وقد رشحت لرئاسة هذا المجلس فاعتذرت ورشحت له أخي العلامة الهندي الشيخ محمد تقي العثماني. وهو فقيه يجمع بين الأصالة والمعاصرة. ولا زال المجلس يعمل ويشرف على إصدار المعايير التي تصدر من الهيئة، وضبطها بضوابط الشرع. وقد صدر عنه عدة معايير لها وزنها وقيمتها العلمية والعملية.

تكاثر البنوك

وقد تكاثرت البنوك الإسلامية، وأصبحت تعد بالمئات، حتى أصبحت البنوك العالمية الأوربية والأمريكية، حريصة على أن تكون لها فروع إسلامية في البلاد العربية والإسلامية المختلفة. لما رأوا إقبال أبناء الشعوب الإسلامية على هذه البنوك، فلم يدعوا هذه السوق للمسلمين وحدهم، وقالوا: نضع لهم المعاملات التي يريدونها. وقد رأوها في واقع الأمر لا تختلف اختلافا جوهريا عن معاملاتهم، وهو ما سهل الأمر عليهم.

وقد دخلت على البنوك الإسلامية في السنين الأخيرة معاملات، جعلتها تتسم بالصورية والشكلية، وتقربها من البنوك الربوية، بحيث لا تكاد تجد فارقا جوهريا بينها وبين البنوك التي يفترض أنها كانت بديلا عنها.

والحقيقة أن البنوك الإسلامية لا تزال تعيش على هامش الاقتصاد الرأسمالي. لم تقدم اقتصادا بديلا عنه، يختلف عنه في أهدافه، وفي وسائله، وفي منطلقاته، وفي روحه.

ولو أن أستاذا اقتصاديا غربيا متعمقا دقق في الفروق الحقيقية بين البنوك التقليدية وما نسميه البنوك الإسلامية، لم يكد يجد فرقا جذريا، إلا بعض الجزئيات والشكليات. وخصوصا بعد أن توسع كثيرون في عملية المرابحة التي باتت هي أساس معاملات البنوك الإسلامية، ولم تعد تسمع عن المضاربات والمشاركات والبيوع والتجارات ونحوها، وليتهم يطبقون هذه المرابحة بشروطها وضوابطها كما تقرها الهيئات الشرعية. بل إن بعض الهيئات الشرعية أدخلوا فيها صورا غريبة يعجب المرء لها.

كما دخل التورق في معاملات كثير من المصارف، حتى سماه بعضهم (التورق المبارك) إلى غيرها من العقود والمعاملات.

مما جعلني أصرخ متخوفا من مصير هذه البنوك إذا استمر الحال على ما هو عليه، بل ربما تزداد تدهورا.

ومنذ سنوات دعا صديقنا الشيخ صالح كامل رئيس مجموعة بنوك البركة إلى ندوة في شهر رمضان المبارك يستصرخ فيها الغيورين على المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية، من معاملة (التورق) الذي غزا بعض البنوك الإسلامية، وكنت ممن استجاب له، ووقفت معه ضد هذا الغزو الخطير الذي يضرب البنوك الإسلامية من داخلها. وكان من أقوى الذين هاجموا هذا التوجه صديقنا العالم الفقيه الشيخ صالح الحصين حفظه الله.

ومنذ سنوات دعا صديقنا العلامة الشيخ تقي العثماني بعض الإخوة من الشرعيين، ومن رجال الاقتصاد، والتقى بنا هنا في قطر. وأصدرنا نداء للمخلصين، ولكل المؤمنين العاملين في هذا المجال: أن يستمسكوا بالخط الأوسط، وبالمنهج الوسط، الذي أوصانا الله تعالى به، حين قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة:143).

فقه الاقليات

- ماذا عن فقه الأقليات وفتاواهم؟ وهل هم بحاجة إلى فقه خاص بهم؟ وكيف ترون قضية الاندماج للمسلمين في المجتمعات الغربية بين الحلال والحرام؟

أود أن أشير هنا إلى حقيقة مهمة، ينبغي لنا- نحن المسلمين- ألا نغفل عنها، وهي: أنه يجب أن يكون للمسلمين- بوصفهم أمة ذات رسالة عالمية- (وجود إسلامي) ذو أثر، في بلاد الغرب، باعتبار أن الغرب هو الذي أصبح يقود العالم، ويوجه سياسته واقتصاده وثقافته، وهذه حقيقة لا نملك أن ننكرها. فلو لم يكن للإسلام وجود هناك، لوجب على المسلمين أن يعملوا متضامنين على إنشاء هذا الوجود، ليقوم بالمحافظة على المسلمين الأصليين في ديارهم، ودعم كيانهم المعنوي والروحي، بجوار المادي، ورعاية من يدخل في الإسلام منهم، وتلقي الوافدين من المسلمين، وإمدادهم بما يلزمهم من حسن التوجيه والتفقيه والتثقيف، بالإضافة إلى نشر الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين.

ولا يجوز أن يترك هذا الغرب القوي المؤثر للنفوذ اليهودي وحده، يستغله ويوجهه لحساب أهدافه وأطماعه، ويؤثر في سياسته وثقافته وفلسفاته، ويترك بصماته عليها، ونحن المسلمين بمعزل عن هذا كله، قابعون في أوطاننا، تاركين الساحة لغيرنا، في حين نؤمن نظريًّا بأن رسالتنا للناس جميعا وللعالمين قاطبة، ومن هنا لا مجال للسؤال عن جواز إقامة المسلم في بلد غير مسلم، أو في (دار الكفر) كما يسميها الفقهاء، ولو منعنا هذا- كما يتصور بعض العلماء- لأغلقنا باب الدعوة إلى الإسلام، وانتشاره في العالم، ولانْحصر الإسلام من قديم في جزيرة العرب ولم يخرج منها.

ولو قرأنا التاريخ وتأملناه جيدا، لوجدنا أن انتشار الإسلام في كثير من البلاد التي تسمى الآن: العالم الإسلامي، إنما كان بتأثير أفراد من المسلمين، تجار أو شيوخ طرق، ونحوهم، ممن هاجروا من بلادهم إلى تلك البلاد في آسيا وإفريقيا، واختلطوا بالناس في بلاد الهجرة، وتعاملوا معهم، فأحبوهم لحسن أخلاقهم وإخلاصهم، وأحبوا دينهم الذي غرس فيهم هذه الفضائل، فدخلوا في هذا الدين أفواجًا وفرادى.

حتى البلاد التي دخلتها الجيوش الإسلامية فاتحة، إنما كان قصدها بالفتح إزاحة العوائق المادية من طريق الإسلام، حتى تبلغ دعوته للشعوب، ليمكنهم أن يختاروا لأنفسهم، وقد اختارت الشعوب هذا الدين راضية مختارة، حتى كان ولاة بني أمية في مصر يفرضون الجزية على من أسلم من المصريين لكثرة الداخلين في الإسلام، حتى أبطل عمر بن عبد العزيز ذلك، وقال قولته الشهيرة لواليه: إن الله بعث محمدا هاديا، ولم يبعثه جابيًا. فهذه هي دعوة الإسلام هداية لا جباية.

وهذا الوجود الإسلامي في الغرب يحتاج إلى فقه خاص به يعين هذه الأقليات المسلمة- أفرادا وأسرا وجماعات- على أن تحيا بإسلامها، حياة ميسرة، بلا حرج في الدين، ولا إرهاق في الدنيا، ويساعدهم على المحافظة على (جوهر الشخصية الإسلامية) المتميزة بعقائدها وشعائرها وقيمها وأخلاقها وآدابها ومفاهيمها وتقاليدها المشتركة، بحيث تكون صلاتها ونسكها ومحياها ومماتها لله رب العالمين، وبحيث تستطيع أن تنشِّئ ذراريها على ذلك، وتمكِّن المجموعة المسلمة من القدرة على أداء واجب تبليغ رسالة الإسلام العالمية لمن يعيشون بين ظهرانيهم، بلسانهم الذي يفهمونه، ليبينوا لهم، ويدعوهم على بصيرة، ويحاوروهم بالتي هي أحسن، كما قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف:108). فكل من اتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم فهو داع إلى الله، وداع على بصيرة، وخصوصًا من كان يعيش بين غير المسلمين، ويعاونها على المرونة والانفتاح المنضبط، حتى لا تنكمش وتتقوقع على ذاتها، وتنعزل عن مجتمعها، بل تتفاعل معه تفاعلًا إيجابيًّا، تعطيه أفضل ما عندها، وتأخذ منه أفضل ما عنده، على بينة وبصيرة، وبذلك تحقق المجموعة الإسلامية هذه المعادلة الصعبة: محافظة بلا انغلاق، واندماج بلا ذوبان. وتسهم في تثقيف هذه الأقليات وتوعيتها، بحيث تحافظ على حقوقها وحرياتها الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كفلها لها الدستور، حتى تمارس هذه الحقوق المشروعة دون ضغط ولا تنازلات، ويعين هذا الفقه المجموعات الإسلامية على أداء واجباتهم المختلفة: الدينية والثقافية والاجتماعية وغيرها، دون أن يعوقهم عائق، من تنطع في الدين، أو تكالب على الدنيا، ودون أن يفرطوا فيما أوجب الله عليهم، أو يتناولوا ما حرم الله عليهم، وبهذا يكون الدين حافزًا محركًّا لهم، ودليلًا يأخذ بأيديهم، وليس غُلًّا في أعناقهم، ولا قيدًا بأرجلهم، ويجيب هذا الفقه عن أسئلتهم المطروحة، ويعالج مشكلاتهم المتجددة، في مجتمع غير مسلم، وفي بيئة لها عقائدها وقيمها ومفاهيمها وتقاليدها الخاصة، في ضوء اجتهاد شرعي جديد، صادر من أهله في محله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

الجزء (1) | (2)